الفتاة المسلمة في السودان قبل القرن العشرين
الأستاذ محمود عبدالله بُرات
كان الإسلام النموذج الأعلى الذي تتطلع إليه الأفراد والجماعات، وكان أثر القيم الإسلامية في حياة الفتاة المسلمة السودانية بين أكبر آثار الإسلام عند المجموعة التي نتعرض إليها بالدرس، فقد كان الانفصال بين النساء والرجال في المجموعة التي نتعرض لها بالدرس، أو ما بلغت نظر الوافد للسودان، والقولة الشهيرة: إن السودان وطن رجال صحيحة إلى درجة كبيرة، فهناك باب الرجال، وهناك باب النساء، وهناك وحوش الرجال، وهناك حوش النساء، وهناك مكان تجمع للرجال في الأفراح والأتراح، وهناك مكان تجمع للنساء في الأفراح والأتراح، وعلى النساء قد ضُرِب الحجاب، وكان خروج الفتاة المسلمة السودانية للضرورات القصوى، ويكون ليلاً ومعها مرافق.
إن فصل دور المرأة على دور الرجال تنشأ عليه الفتاة من نعومة أظفارها، ففي عهد الطفولة تلعب الطفلة مع رصيفاتها بعيدًا عن الذكور، ويختلف لعب الصغيرات من البنات عن لعب صغار الأولاد، فالفتيات يصنعن العرائس من القطن والخرق البالية، ويكون ذلك في داخل البيت، أما صغار الصبيان، فيتسلقون الأشجار، ويسبحون في النهر، ويصطادون الطيور وصغار الحيوانات، ويكون كل ذلك أو جله خارج الدار، وإذا خرج أي من الجنسين من دوره إلى دور أخيه، يجد العقاب الاجتماعي بالاستنكار الشديد ومن الجميع، وربما يجد العقوبة البدنية، وخاصة للصبيان، وإذا تسامح مُسلمو أهل السودان في لعب الأطفال، فإنهم لا يسمحون بالاختلاط لليافعين والراشدين.
إن الفتاة المسلمة السودانية تحس باختلاف دورها من دور الرجل إحساسًا عميقًا في أول الرشد العضوي، فهي لا تذهب خارج الدار، ولا تصافح الرجال، وقد حكى لنا الشيخ بابكر بدري عن المرأة التي مدَّت له يدها - وذلك في طريق عودته ووالدته من بيعة الإمام المهدي - فلم يمد لها يده مصافحًا، ويمارسون ذلك في أحرج الظروف؛ فقد أمر القائد البريطاني أن يحضر الأسرى المهدويون نساءهم وأولادهم؛ ليتأكد من أعدادهم، ثم يصرف لهم زاد الطريق الصحراوي الطويل، فقالوا: نحن أهل السودان لا نحضر النساء؛ لينظر إليهم الرجال، فرد عليهم القائد البريطاني قائلاً: أنا أجيء بامرأتي معي، فانظروا إليها، وأنا أنظر لنسائكم وحدي[1]، وكانوا يبالغون في إخفاء المرأة عن الرجال، حتى إنهم لا يذكرون أسماء النساء في مجتمع الرجال، فيقولون: «بنت فلان»، و«أخت فلان»، و«زوجة فلان».. إلخ، وقد جاء ذلك عند ود ضيف الله يترجم لأحدهم، فقال: «وله من الأولاد رجب وناصر وإدريس...، وله من البنات ما لا حاجة لنا بذكره»[2].
كانت الفتاة المسلمة تستطيب هذا الانفصال، وتجد فيه عفة وصونًا، وكان الرجال يستطيبون ذلك أيضًا، ويرون فيه بعدًا عن فتنة البصر وفتنة السمع، وفتنة خائنات الأنفس والصدور، وقد قال ود ضيف الله وهو يترجم للشيخ إدريس بن الشيخ عبدالرحمن بن جابر، فقال[3]: جلس للتدريس بعد عمه الشيخ إسماعيل، وكان شيخًا عالِمًا فاضلاً، لكن الخلوة خربت في زمانه، والسبب في ذلك أنه تزوج بالملكة في كجبى، وكان يمشي إليها بالبطالة، فمنعته من ذلك، وقالت: ارحل بتلاميذك للقراءة، وليكن التدريس في بيتي، فامتنع الفقراء من ذلك، وقالوا: عندها الخدم الجميلات يدخلن ويخرجن فوقنا، فنخشى أن يفسدنا علينا ديننا، وتفرَّقوا.
إن الفتاة السودانية المسلمة كانت غائبة عن الرجال، ولكنها ملكة المنزل ومحضن الإيمان فيه، وتحسب الفتاة المسلمة السودانية أنها لذلك خُلِقت، وصلتها بدورها في المنزل تمارسه في يفاعها وفي بيت أبيها، ومناهجها لتعلم دورها تأتي بالتقليد من الأم والجدة والشقيقات الكبار، وكل ما تجد في بيئتها النسوية، فهي تغسل الملابس، وتنظف الأواني، وتكنس الغرف والحوش، وترفي الثياب، وتفرش المنزل، وهي تطحن الذرة والقمح والدخن، وتخبز الخبيز السوداني، وتطهو الطهو السائد، وتقوم بصناعة بعض الأواني من جريد النخل والفخار، وتغزل خيوط القطن وتصنع به وبعد غزله الملابس، وعندما تتزوج - والزواج عندهم مبكرًا - تقوم بالأعمال نفسها، ويزيد عليه الاهتمام بالزوج ومواجهة الأمومة، وكلما قدمت من دور المرأة يحسبونه من هدي الإسلام، وهم به معتدون وهم عليه محافظون!
الرجال وكفالة النساء:
كان الرجل عندهم كفيلاً طيلة حياتها، فهي مكفولة بواسطة أبيها وأخيها، أو من يقوم مقامهما شرعًا، ثم يكفلها زوجها بعد الزواج، وربما يكفلها ابنها إذا دعت الحالة لذلك، والرجال يقومون بكفالة النساء في شيء من الاعتزاز والحماس، ويرون أنه مقوم من مقومات الرجولة، إلى جوار أنه تكليف شرعي إسلامي في نظرهم، ولم يكن الرجل يجد في كفالته للمرأة شيئًا من الاعتداد عليها، ولا سيما أن المكفولة دائمًا هي البنت أو الزوجة أو الأم أو الأخت، وأمثالهن من القريبات، وما كانت النساء تجد في كفالة الرجال الإذلال أو العبودية والتنقيص!
بل تجد فيها العز، ولا سيما أن الكفيل هو الأب أو الأخ أو الزوج، ومماثلوهم من الرجال، وتقوم الكفالة بين هؤلاء القوم في ظل الحب والولاء والتقدير، وإذا رُفِع أي واجب عن كاهل المرأة أو الرجل، تجده بذلك، ويعتبره منقصة كبيرة، فالرجل يعتبر نفسه ليس أهلاً للبذل إذا رفعت عنه كفالة المرأة، وتجرح بذلك كرامته، وتثور ثائرته، والمرأة تجد الصَّغار إذا رفع عنها سلطان الرجل وولايته، فالمرأة تمدح بأن لها وليين؛ أي: ولاة أمور.
كان هؤلاء القوم يرعون واجبات المرأة وحقوقها تحت قاعدة الوفاق، وينكرون أن تصل الأشياء الخاصة بها لمسمع الآخرين وأبصارهم، والتستر الشديد على جميع شؤون المرأة، وهضم بعض حقوقها التي يعترفون بها شكليًّا، فهي غالبًا لا تستشار في شؤونها الخاصة مثل الزواج، ولا تشترط لنفسها وقت العقد، وعندما يقع الخلاف بين الرجل والمرأة، يعتمدون غالبًا رأي الرجل، ويُهونون من رأي المرأة، إلا أن يكون للرجل عيب ظاهر على رؤوس الأشهاد، ومن حقوق الكفالة عندهم الحماية والرعاية لجانب الشرف والعفة، وهذا من أكثر حقوق الكفالة رعايةً، والقصور في الشرف والعفة يُحطم شعور الرجل بذاته ورجولته وشرفه، ويُحطم جميع الأسرة التي تجرح في شرفها وعفتها، ولهؤلاء القوم مقومات محددة للشرف والعفة وضوابطها، لا يحوم حولها عابث!
من بحث منشور في المؤتمر الأول لجماعة الفكر والثقافة الإسلامية
الخرطوم، السودان 29 محرم - 2 صفر 1403هـ
[1] بابكر بدري، المرجع السابق.
[2] محمد ود ضيف الله، المصدر السابق، ص108.
[3] المصدر نفسه، ص27.