شكر النعم
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
الحمد لله القائل: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، سبحانه واهب النِّعم ومجريها، وأشكره على جزيل نِعَمه التي لا تُحصى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُعطي من يشاء بغير حساب، نعمه كثيرة، وخيره عميم، وفضله لا يَنفَد، جواد كريم، برٌّ رحيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))، صلى الله وسلم على نبينا ومُعلِّمنا محمد، أوذي فصبر، وأعطي فشكر، ورضي الله عن أصحابه الصابرين الشاكرين الذين فازوا بالسعادتين في الدنيا والآخرة؛ جزاء صبرهم وشكرهم.
أما بعد: أيها الناس:
اتقوا الله يجعل لكم فُرْقانًا، ويُكفِّر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، والله ذو الفضل العظيم، واعلموا أن تقوى الله - سبحانه وتعالى - هي: شُكْره على نعمه الظاهرة والباطنة، وأن شُكْر هذه النِّعم من مُقوِّمات الأمن والاستقرار، وسبب لرضا الله - سبحانه وتعالى - وحصول الأرزاق وتوافُرها، وشُكْر النعم يَضمن بقاءها وزيادتها، وسلامة من عذاب الله الشديد؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، فكُفْر النِّعم سبب لزوالها، وتبدُّلها بالجوع، وسبب لاختلال الأمن والاضطراب بعد الاطمئنان، وسبب لانقطاعها بعد توارُدها من كل مكان، وسبب للقحط والجدب بعد الخِصْب والرَّغد؛ قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
ولقد هيَّأ الله - جل وعلا - لسبأ من الجنات والبساتين والأرزاق والأمن في الأسفار ليلاً ونهارًا، أينما التفتوا ونظروا سُرَّت أعينهم وطابت أنفسهم، ولكنهم أُمِروا بشكرها فكفروها، وأُمِروا بالحِفاظ على بلدتهم الطيبة فلم يَمتثِلوا، وعرَض عليهم ربُّهم مغفرتَه إذا تابوا وأنابوا وشكروا، فأعرضوا ونفروا، فبُدِّلوا ببساتينهم أشجارًا لا تنفعهم، ليس فيها ثمر ولا مطمع، فأحلَّ بهم نقمتَه، وسلبهم نعمته، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15 - 17]، وقد أمنوا في أسفارهم وتَقارَبوا من شدة الأمن؛ حتى إنهم كفروا هذه النعمة، وطلبوا بُعْد السفر وظلموا أنفسهم بسبب صنيعهم، فصاروا أحاديث ومُزِّقوا شرَّ مُمزَّق، وصدَّق عليهم إبليس ظنَّه؛ ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [سبأ: 19 - 21].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واشكروا نِعَم الله عليكم، ولا يصدق عليكم ظن إبليس، وكونوا ممن آمن بالآخرة، ولا تكونوا ممن شكَّ فيها؛ فإن الشك في الآخرة والتكذيب والكُفْران بالنعم سبب للعقوبات وحلول المَثُلات، وعقوبات الله تعالى قد تكون عاجلة في الدنيا، وقد تؤجَّل إلى الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ * قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [إبراهيم: 28 - 31].
عباد الله، أي مسلم يريد أن تكون جهنم مقره، والنار مصيره؟! أي مسلم يريد أن يضل عن سبيل الله؟! أي مسلم يريد أن يُبدِّل نعمة الله كفرًا؟! أي مسلم يريد أن يكون سببًا للبَوار على قومه ومجتمعه؟! كل هذا ليس من شأن المسلم، بل من شأنه: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاء، ومراقبة الله في السرِّ والعَلَن، والحذر من الوقوف بين يديه، ومن يوم العَرْض عليه - سبحانه - لذلكم اليوم الذي لا خُلَّة فيه ولا شفاعة، ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ [الفرقان: 27، 28].
ونِعَم الله تعالى لا تُعَد ولا تُحصى، منها ما يُرى في الظاهر، ومنها ما هو خفي ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، وحقيقة شُكْر النِّعم هو: الثناء على المُحسِن بما أَولاه من المعروف.
ولا يتم الشكر إلا بتواطؤ القلب مع اللسان اعتقادًا ونُطقًا، وصرفها في طاعة الله تعالى، فمَن صرفها في معصية الله تعالى، واعتقد أنها من عند غير الله تعالى، أو أضافها إلى غير الله بمقاله، فإنه لم يكن شاكرًا، بل كافرًا لنِعَم الله تعالى، قال تعالى: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 83]، وأكثر الخَلْق على هذا الوصف الذميم.
فاحذر - يا أخي المسلم - أن تكون من أهل هذا الوصف، وكن دائمًا من عباد الله الشاكرين؛ قال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، فما نحن فيه اليوم من النِّعم الكثيرة، والتي أجلها نعمة الإسلام، والصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان - تَستوجِب تثبيتها والحفاظ عليها؛ ولا يكون ذلك إلا إذا قوبلت بالشكر، وعُرِف حق مُسديها، فإن قابلْناها بالبَطَر، سلبها منا، وحلَّ بنا ما حَلَّ بمن قبلنا: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]، كما لا ننسى ولا يَعزُب عن أذهاننا أن حصولَ النِّعم في بعض المجتمعات ولبعض الأفراد مع التلبس بمعاصي الله تعالى قد يكون استدراجًا من الله تعالى لهذا المجتمع ولهذا الفرد، فيكون مآله إلى الهلاك والدمار؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 44، 45].
فداوِموا أيها المسلمون على شُكْر نِعَم الله تعالى عليكم، واحذروا المعاصي؛ فإنها الهلاك وسبب لزوال النِّعم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 96 - 99].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.