الدعوة.. مبارزة أم زحف؟
أ. د. عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي
الدعوةُ إلى الله تَعني في مفهومها العام: توجيهَ الناس إلى فِعل الخير وترْك الشر، وحثَّهم على امتثال ذلك، مع المتابَعة.
وهي وظيفةُ الرُّسل - عليهم الصلاة والسلام - وأتباعهم إلى قِيام الساعة، والناس يحتاجون إليها كحاجتِهم إلى الغِذاء والدواء، بل أشد؛ لأنَّ فيها أسبابَ السعادة العاجِلة والآجِلة.
ولا يختلف علماءُ الإسلام على أنَّها واجبةٌ مِن الواجبات الشرعيَّة، على خِلافٍ في تحديدِ هذا الوجوب، أهو وجوب عيني أم وجوب كِفائي؟
وليس الحديث هنا عن هذا الأمر.
أمَّا ما ندبتُ قلمي للكتابة عنه، فهو يدور حول: أسلوب الدَّعْوة.
إنَّ نظرةً عجلَى لواقع الدعوة الإسلاميَّة في عصرنا الحاضِر تعكِس لنا عِدَّة أُمور وملاحظات، منها:
1- كثرة الدُّعاة وانتشارهم في بلادِ المسلمين وفي بلادِ العالَم، وهذه نِعمةٌ مِن الله تستحقُّ الشكر.
2- تعدُّد المناهج واختلافها، سواء في مجالِ الفِكر أم العمَل، وفي الأساليب والوسائل، وغير ذلك.
3- وهناك دعواتٌ قامتْ على جهود فرديَّة، وأخرى على جهودٍ جماعيَّة.
4- ثم تعدَّدتْ وجهاتُ النظر، واختلفتْ في المفاهيم، بل تباعدتْ وتنافرتْ.
وإذا كانتِ الملحوظة الأولى إيجابيَّة لا غُبار عليها، فإنَّ الملحوظات الأخرى لا تخلو مِن السلبية التي تتطلَّب النِّقاش والحوار، فلطالما عاقتْ مسيرة الدعوة، بل أجهضتْها أحيانًا، وأوقعتِ الناس في الهرج والمرج.
ولعلَّ ممَّا يساعد على علاجِ هذه الأدواء المعضلة طرْحَ هذا السؤال ثم الإجابة عنه.
والسؤال هو: هل الدعوة مناورة، أو مبارَزة، أو زحْف؟
وليسمحْ لي القارئُ الكريم إذا استعملتُ مصطلحاتٍ في مجال القِتال والجهاد.
ولعلَّه يشفع لي أنَّ الجهاد مِن الدعوة، وعليه فلم أُبعد النُّجْعة.
وقبل الإجابة عنِ السؤال ربَّما يسأل القارئ عن معاني مُفردات هذا السؤال، فما معنى مناورة؟ وما معنى مبارَزة؟ وما معنى زحْف؟
أما المناورة، فأصلها اللُّغوي: المشاتَمة، وفي الاصطلاح العسكري: عمليَّة عسكريَّة يقوم بها فِرق من الجيش يقاتل بعضُها بعضًا على سبيلِ التدريب[1].
وأما المبارزة، فهي مِن بارَز صاحبه؛ أي: برز إليه ونازَله بالسَّيف ونحوه[2].
وأمَّا الزَّحْف، فهو الجيش الداهِم الذي يُرَى لكثرته كأنَّه يزحف؛ أي: يدب دبيبًا؛ مِن زحف الصبي: إذا دبَّ على استِه قليلاً قليلاً[3].
وأصل التزاحُف هو التداني والتقارُب.
وإذًا فإنني قصدتُ هذه المعاني.
فهل الدعوة تقومُ على المناورات والاحتكاكات الداخليَّة؛ أعني داخلَ محيط الدُّعاة؟
أم هل تقوم على المبارَزات والمنازلات؟
أم تقوم على الزَّحْف والدبيب والتقارُب نحو الهدَف؟
ولعلَّك أخي القارئ ستبادِر بالجواب باختيار الأسلوب الأخير، وهو الزَّحْف، وهذا حقّ، فإنَّه الأسلوب الصحيح والناجِع فيما أرى.
أي: إنَّ الدعوة تسير نحوَ هدفها بقوَّة وثبات وبخُطًى متقاربة أشبه بالزَّحْف في الجهاد.
وهذا الأسلوب يَتميَّز بأمورٍ أو عناصر:
1- وحْدة الهدَف.
2- وحدة الصفِّ.
3- سيرورة العمَل في منظومةٍ واحدة.
4- الثبات على المبدأ.
5- الشجاعة.
6- السَّيْر رُويدًا رويدًا.
وهي عناصرُ كفيلةٌ بنجاح الدعوة، وبتحقيقِ هذه العناصر يظهر الفَرق بيْن هذا الأسلوب والأساليب السابقة: المبارزة والمناورة، التي لن تتوفَّرَ فيها تلك العناصر.
بل ربَّما افتقرَتْ إلى بعض العناصر الأساسيَّة؛ حيث تقوم مِثل تلك الأساليب على الجُهود الفرديَّة، والاجتهاد ذات الخاصَّة، والأعمال المبعثَرة مع التهوُّر.
إنَّ تلك العناصر أو المميزات إذا توافرتْ في العمل الدَّعوي، فإنَّ ذلك يعني:
أ- التقارُب والتآلُف بيْن الدعاة.
ب- ومِن ثَم التمازُج والتلاحُم.
جـ- التعاون على البِرِّ والتقوى.
د- ردّ المتنازَع فيه إلى الله والرسول عن طريقِ العلماء الراسخين في العِلم.
هـ- التنسيق في العمَل.
و- الزَّحْف الجَماعي نحوَ تحقيق الهدف.
ز- إدراك خطَر العدوِّ المشترَك.
ح- حلّ المنازعات بطريقةٍ وديَّة.
ط- عدَم التشهير والتعيير.
ي- تحقيق الشُّورى الإسلاميَّة.
حقًّا إنَّنا لو استطعنا أن نُقيم دعوتنا على أسلوب "الزَّحف"، لكان للدعوة شأنٌ آخر، ولتفادينا كثيرًا مِن الأخطاء الشائعة والمتتالية التي تعيق مسيرةَ الدعوة، وهذه نماذج مِن تلك الأخطاء:
1- تعدُّد المناهج والأساليب الدعويَّة بصورةٍ متباينة متضادَّة أحيانًا، وربَّما كان ذلك في منطقةٍ واحدة أو بلدٍ واحد؛ مما يجعل الناس يعيشون في أمرٍ مريج، لا يعرفون مَن هو المحِقّ؟
2- الجَفْوة بيْن الدُّعاة، بل بيْن طلاَّب العِلم، إلى حدِّ التنافر، بل التشاحُن، بل التنابُز بالألقاب، لا بل إلى حدِّ التضليل والتجهيل، بل قل: إلى حدِّ الاشتباكات العنيفة أحيانًا.
3- الحزبيَّة والتعصُّب للرأي أو للشيخ أو للجماعة.
4- التشاغُل بيْن الدعاة وصرْف جُلِّ الجهود والأوقات في سبيل الانتصار للنفس أو للجماعة.
وهذه الأخطاء وغيرها كثير تُعطي الناس - سواءً مِن المسلمين أم من غيرهم - صورةً مشوهة وقاتمةً عن "الحق".
بل إنَّ الأخطاء ربَّما جرتْ إلى تحكيم الهوى ورغبات النفس.
ونخشى أن يصدُق علينا ما وقَع به من قبلنا: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4].
وإذا كان ذلك مشكلة - وأي مشكلة؟! - ترى ما المخرَج عندئذٍ؟ والواقع أنَّ هنالك جوابًا إجماليًّا، وجوابًا تفصيليًّا.
أما الإجمالي، فهو في الرُّجوع الصادِق إلى كتاب الله تعالى وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتحكيمهما في الصَّغيرة والكبيرة، ونبْذ الهوى والتعصُّب والتحزُّب.
وأمَّا التفصيلي، فقدْ يكون فيه مجال للاجتهاد؛ ولذلك ألخِّصه في الخطوات التالية:
1- عقْد اللقاءات والحوارات الجادَّة بيْن الدعاة، وعلى الأخص منهم رِجال العلم؛ لوضع مشروعٍ دعوي متكامل؛ تحقيقًا للشورى التي شَرَعها الله.
2- وإذا حصَل اختلافٌ في الرأي في أيِّ أمر مِن أمور الدِّين فليناقش مِن قِبل كِبار العلماء وذوي الرأي، ولا يُنشر على رؤوس الأشهاد، إلاَّ إذا بدَا واضحًا أنَّ المخالف معاندٌ متعصِّب.
3- ولا بدَّ أن يكون ثَمَّة تنسيق بيْن الدعاة أو الهيئات المسؤولة عنِ الدعوة.
4- وعند المناقشات والحوارات والرُّدود العِلميَّة يلتزم بالآداب الشرعيَّة والعُرفيَّة في هذا.
وكم نحن بحاجةٍ إلى أن نربِّي شبابنا وأجيالنا على صِدق اللهجة، ولِين الجانب، واحترام الآخرين؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((البِرُّ حُسنُ الخُلُق))[4].
ولنا في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُسوة حَسنة؛ حيث لم يكن طعَّانًا ولا لعَّانًا، ولا فاحشًا ولا متفحشًا، ولا فظًّا ولا غليظَ القلب.
وسار على سُنَّته أصحابُه والتابعون، وتابعوهم مِن سلفنا الصالِح إلى عصْرِنا الحاضر.
ومِن الغلط الفاحِش اعتقادُ أنَّ نُصرة الحق لا تتمُّ إلاَّ بالعُنف والخشونة والكلمة الغليظة، والحُكم على الخصْم بالتجهيل والتضليل، والتفسيق والتكفير.
وإذا تَقرَّر ذلك، فليس العلاج أيضًا في السُّكوت عنِ الأخطاء ومداهنة العُصاة، وتأمَّل معي قول الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "وإذا كان الكُفر والفُسوق والعِصيان سببَ الشرِّ والعدوان، فقد يُذنِب الرجلُ أو الطائفة ويسكُت آخرون عن الأمْر والنهي، فيكون ذلك مِن ذنوبِهم، ويُنكر عليهم آخَرون إنكارًا منهِيًّا عنه، فيكون ذلك مِن ذنوبِهم؛ فيحصُل التفرُّق والاختلاف والشرّ، وهذا مِن أعظم الفِتن والشُّرور قديمًا وحديثًا؛ إذِ الإنسان ظلومٌ جهولٌ"[5].
فالعلاج إذًا ليس بالسُّكوت، ولا بالأسلوب الظالِم الجاهِل.
وقُصارى الأمر: أنَّ الدعوة لا تُحقِّق النجاحَ المطلوب إلا بأسلوب "الزحف"، وهو درجات:
أولاها وأعلاها: توحيد الجهود؛ امتثالاً لقول الحق: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].
ثانيها: فإنْ لم يتحقَّق ذلك، فبالتنسيق بيْن الدُّعاة؛ حتى لا يحصُل الاضطراب والتناقضات.
ثالثها: وإنْ لم يمكنْ ذلك، فبالتشجيع والتأييد والفرَح بما يُحقِّقه الآخَرون مِن عملٍ دعوي.
رابعها: وإنْ لم يمكن ذلك كله، فعلى الأقل: الكفُّ عن عرقلتِهم، وعدم التأليب ضدَّهم أو السُّخرية منهم، هذا مع النُّصح والتوجيه بالأسلوب المناسِب.
والله يقول الحقَّ، وهو يَهدي السَّبيل.
[1] انظر "القاموس المحيط" باب الراء - فصل النون - مادة نور، و"المعجم الوسيط" مادة "منأ" (ص: 888).
[2] "المعجم الوسيط" مادة "برز" (ص: 49).
[3] "الكشاف للزمخشري" (2/148)، و"المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم" للأستاذ محمود شيت خطَّاب (1/326).
[4] رواه مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - الحديث رقم (2553).
[5] "مجموع الفتاوى" (28/ 142).