بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
حديث: (( تصدقوا. فيوشك الرجل يمشي بصدقته ))
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
1- عن حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ يَقُولُ: «تَصَدَّقُوا. فَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا: لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الآنَ، فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهَا، فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا».
وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ لاَ يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَة يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ».
وورد في الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة.
ولمسلم أيضًا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ، فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا».
شرح ألفاظ الأحاديث:
(( فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا )): أي يقول الذي عرضت عليه.
(( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ )): (يَطُوفُ ): كلمة فيها إشارة إلى أنه يتردد بصدقة بين الناس فلا يجد من يقبلها.
(( يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِه)): (يَلُذْنَ بِهِ): أي ينتمين إليه ويستترن به ليقوم بحوائجهن ويدافع عنهن، وذلك لقلة الرجال وكثرة النساء، فيذهب الرجال بسبب الحروب والملاحم والقتل الذي يكون في آخر الزمان، كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن بإذن الله تعالى، وتبقى النساء لا قائم عليهن فيلُذْنَ بالرجال.
(وورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة) وهو حديث آخر وفيه: ((فيفيض (أي المال)، حتى يُهم رب المال من يقبل منه صدقته))، (يُهِم) ضبط بوجهين أشهرهما كما قال النووي ضم الياء وكسر الهاء؛ أي يحزنه ويهتم له.
((حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ)): قوله: ( وَيَفِيضَ) فيه بيان الزيادة في كثرة المال.
((حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا)): ( مروجًا ): أي رياضًا ومزارعًا، وقيل: المرج الموضع الذي ترعى فيه الدواب.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في أحاديث الباب الحث على الصدقة والمبادرة في إخراجها، وذلك من وجهين:-
الأول: قول النبي صل الله عليه وسلم: "تَصَدَّقُوا"، كما في حديث حارثة رضي الله عنه
والثاني: بيان أنه سيأتي زمان يخرج الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها لكثرة المال واستغناء الناس، وعليه فليبادر المسلم فيخرجها في وقت حاجة الناس قبل أن يستغنوا عنها.
الفائدة الثانية: في حديثي حارثة وأبي موسى رضي الله عنهما إخبار النبي صلَّ الله عليه وسلَّم بأنه سيأتي زمان يطوف الرجل بصدقته فلا يجد من يقلبها، واختلف في هذا الزمان متى يكون؟
القول الأول: أن هذا الزمان وقع في عهد عمر بن عبدالعزيز، فقد وجد في عهده رحمه الله من يخرج بصدقته، ولا يجد أحدًا يقبلها منه، وعليه فلا يكون من أشراط الساعة.
ودليلهم: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه المتفق عليه، وسيأتي بعد الباب القادم؛ حيث جاء في رواية البخاري أن النبي - صلَّ الله عليه وسلَّم - أوعده بأنه سيرى ثلاث أمور، ومنها قال: "ولئن طالت بك حياة لترينَّ الرجل يُخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه".
قال ابن حجر رحمه الله: "وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق عمر بن أسيد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب بسند جيد قال: "لا والله ما مات عمر بن عبدالعزيز حتى جعَل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فلا يجد فيرجع به، قد أغنى عمر بن عبدالعزيز الناس".
والقول الثاني: أن هذا يكون في آخر الزمان، فهو من أشراط الساعة حين ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام.
واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي في الباب عن مسلم أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله، فلا يجد أحدًا يقبلها منه"، وأيضًا ورد في الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، قال النبي صلَّ الله عليه وسلَّم: "والذي نفسي بيده، ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا، فيكسر الصليب ويقتل الخنازير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد".
والأظهر والله أعلم أن يقال: إن هذا يحدث في آخر الزمان حين نزول عيسى عليه السلام، لدلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فهو نص في ذلك، ولا يمنع أن يكون وقع في زمن عمر بن عبدالعزيز لحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، فيتحصل من ذلك أنه يقع مرتين، فإن النبي صل الله عليه وسلم أراد بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه زمان، وأراد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه زمان آخر، والمهم أن يبادر المسلم لبذل الصدقة قبل أن يأتي وقت لا يحتاج إليها،
فإن قيل: ما سبب كثرة المال وعدم قبول الصدقة في الزمانين؟
فالجواب: أما في زمن عمر عبدالعزيز - رحمه الله - فلبسطه رحمه الله العدل وإيصال الحقوق لأهلها حتى استغنى الناس.
وأما في زمان عيسى - عليه السلام- فسببه كثرة المال وقلة الناس، واستشعارهم لقيام الساعة، وعدم ادخارهم للمال.
وأيضًا ما تخرجه الأرض من أفلاذ أكبادها وهي الخيرات والبركات التي فيها كما دل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - القادم؛ [ انظر الفتح ( 13/104 ) حديث رقم (7120/7121 ) ].
الفائدة الثالثة: في أحاديث الباب شدة المبالغة في عدم قبول الصدقة في ذلك الزمن؛ حيث جاء التعبير عن هذا المال بأمور أربعة:
♦ أنه يعرضها، وهذا في قول النبي - صل الله عليه وسلم –: "فَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ".
♦ أنه يطوف بها وهذا فيه كثرة التردد؛ حيث قال: "يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ".
♦ أن هذه الصدقة تكون من أنفس الأشياء وهو الذهب.
♦ أنه لا يقبلها منه أحد، بل تردُّ عليه: "لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا. فَأَمَّا الآنَ، فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهَا".
بل جاء في رواية مسلم الأخرى أن صاحب المال يحزن في ذلك الوقت لعدم وجود من يقبَلُها.
الفائدة الرابعة: في أحديث الباب ثلاث علامات من علامات الساعة وهي:
1- عدم قبول الصدقة ويؤخذ من كثرة المال.
2- قلة الرجال وكثرة النساء، ويؤخذ منه كثرة القتل في آخر الزمان، وسيأتي بيانه في كتاب الفتن.
3- تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا، وسيأتي في الحديث القادم إخراج الأرض بركاتها من الذهب والفضة، وعودة أرض العرب مروجًا وأنهارًا يُشعر والله أعلم أنهم يتركونها ويعرضون عنها - أي أرض العرب - فتبقى مهملة ولا تُزرع ولا تُسقى من مياهها، وذلك لقلة الرجال، وكثرة الحروب، وتراكم الفتن، وقرب الساعة، وقلة الآمال وعدم الفراغ لذلك والاهتمام به؛ [ انظر شرح النووي المجلد السابع حديث (1012) ]، ولا يستبعد أيضًا أن يكون تغيُّر أرض العرب بسبب تغيُّر مناخها آخر الزمان، فتتواتر عليها الأمطار، وتخضَرُّ أرض جزيرة العرب، وتكثر الرياض والجبال، وتجري الأنهار فيها والله تعالى أعلم وأحكم.
§§§§§§§§§§§§§§§§