دولة المماليك البحرية
محمد عبد الحميد الرفاعي
مصرية المماليك:
المماليك عناصر أجنبيَّة مَجلوبة إلى مصر - كما سيأتي تفصيله - بهدف استعمالهم كجُند وقوَّة عسكريَّة يَعتمد عليها حُكَّام البلاد، وهم ينتمون إلى أجناس متعددة من تُرْك وخزر، وجركس وأرمن، وأكراد وأورام.
وقد شاع بين كثيرٍ من المؤرِّخين اعتبارُ هؤلاء المماليك طائفة أجنبيَّة لا تنتمي إلى مصر، وفي مقدمة أصحاب هذا الرأي فريق من المستشرقين، يأتي على رأْسهم المستشرق الإنجليزي "وليم موير" في كتابه "تاريخ دولة المماليك في مصر".
وقد بَنَى هذا المستشرق رأْيه على عدة اعتبارات:
منها: أنَّ هؤلاء المماليك قد جُلِبوا من خارج مصر، وأنهم بعد استقدامهم إليها عاشوا في عُزلة داخل أسوارهم وأبراجهم، ولَم يَختلطوا بأهل البلاد، أو يتزوَّجوا من مصريَّات إلاَّ نادرًا، وهو يعتبر حكومتهم "حكومة أجنبيَّة استبداديَّة"، وأنهم كانوا حريصين على أن يجمعوا الأموال، ويملؤوا خَزَائنهم على حساب أهل البلاد واستعبادهم وإذلالهم.
وأَعْقبه بعد ذلك المستشرق الفرنسي "هنري لاوست" الذي كانت آراؤه صدًى وترديدًا لأقوال موير، وأضافَ أنَّهم لَم يتمكَّنوا من إجادة اللغة العربية، ولَم يتعمَّقوا في الدين الإسلامي أو يلتحموا به، فهم في نظره طائفة من الجُند المرتزقة والغُزاة المحتلين، ومِن ثَمَّ تعمَّقت مشاعر الكراهية بينهم وبين المصريين.
وقد انسَاق بعض المفكرين المصريين خلف هذه الآراء ونقلوها دون تحقيق أو تمحيص، ودون تنبُّه لِمَا يُمكن أن يحمله هذا الرأي من انتقاصٍ من قدْر مصر وتاريخها المجيد، والغَض من شأْن الإنجازات والانتصارات العظيمة التي تحقَّقت في هذه الحقبة الحافلة من تاريخها.
وإذا ارْتَضينا هذا المقياس، واعتبرنا كلَّ مَن وفَد إلى مصر أو جاء آباؤه وأجداده من خارجها، فإننا سوف نهدر حِقَبًا عظيمة من تاريخها، ونرفض عديدًا من حُكامها، مثل: أسرة الملك "مينا" أوَّل ملوك الفراعنة الذين ذكَرهم التاريخ، التي قَدِمت - كما تؤكِّد معظم الدراسات - من آسيا، ونُنكر عهود الفتح الإسلامي، ونرفض حُكم الطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين وغيرهم.
وبهذا المقياس أيضًا يُمكننا أنْ نحكم على دول أوروبا التي نشأَت مع غزوات القبائل النورمانديَّة القادمة من شمال أوروبا؛ من وندال وجِرمان، وفرنجة وقوط، ودول أمريكا الشماليَّة والجنوبيَّة وأستراليا الوافدة من أوروبا وغيرها.
ومِن سُنة الله في خَلْقه أنَّ الناس في حركة دائمة دائبة، يسيحون ويهاجرون في أرض الله الواسعة، ويستوطنون مناطق جديدة، ومنهم العرب والأتراك، والمُغول والأوروبيون وغيرهم، وبمرور الزمن، وبتأثير عوامل التمازُج والتفاعُل، يرتبطون بالمَوَاطِن الجديدة، ويلتحمون بها، ويُصبحون من أهلها.
والمقياس يجب أن يختلفَ عمَّا ذكَره هؤلاء المستشرقون ومَن تابعهم، فالمقياسُ الحقيقي هو الولاء والانتماء وخدمة الأوطان، فكلُّ مَن عاش على أرض مصرنا أزمانًا، وارتبط بتُرابها وتُراثها، وعَمِل على حمايتها والرُّقي بها، وانتمى إليها دون غيرها، فهو مصري، حتى ولو كان أجداده من خارجها، وعلى العكس من ذلك، فكلُّ مَن أساء إلى مصر، أو جعَل انتماءَه الأوَّل لغيرها - فكرًا أو عملاً - فهو غير مصري، حتى ولو كان مولده على أرْضها وكان أبواه مصريَّيْن.
وهذا المقياس الذي نرتضيه - وهو مقياس الولاء والانتماء والإيمان - هو ما يرتضيه الإسلام، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلمان الفارسي: ((سلمان منَّا آل البيت))، وقال الله - تعالى - عن ابن نوح - عليه السلام -: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)[هود: 46].
وإذا نظرنا إلى المماليك نلحظ ما يأتي:
1 - أنهم قَدِموا إلى مصر أطفالاً صغارًا بين السابعة والثانية عشرة، قبل أن تتحدَّد انتماءاتهم، وتتكوَّن مشاعرهم وثقافتهم، فقد كانوا في سنِّ التعليم والتلقين والنمو، فساعَد ذلك على الْتِحَامهم بموطنهم الجديد مصر، ومثال ذلك المؤيِّد شيخ الذي اشتراه السلطان "برقوق" وهو في السابعة من عُمره، ثم صار بعد ذلك سلطانًا، وكان المماليك في هذه المرحلة من العُمر يُسَمون بالمماليك "الكُتابية"؛ نسبة إلى "الكُتَّاب"، وهو مكان لتعليم الصغار؛ مما يُشير إلى أنهم في سنِّ التعليم الأُولى.
2 - أنَّ هؤلاء المماليك جاؤوا إلى مصر؛ ليقيموا بها إقامة دائمة مدى الحياة، ولَم تكن إقامتهم فيها مؤقَّتة، ولَم يأتوا لأداء مهمة عسكريَّة محدودة، ثم يرجعون بعدها إلى مواطنهم؛ مما ينفي عنه وصْفَهم بأنهم مُرتزقة مأْجورون، أو أنهم غُزاة مُحتلُّون.
3 - أنَّ هؤلاء المماليك انقطَعت صِلَتهم تمامًا بمواطنهم الأصليَّة انقطاعًا مكانيًّا ووجدانيًّا، وكان بعضهم يعرف موطنه وبلده الذي جاء منه، ولكنَّ أحدًا منهم لَم يُفَكِّر في ترْك مصر والعودة إلى موطنه الأصلي، أو زيارة أهله وذَوِيه هناك، فقد أصبحَت مصر بالنسبة لهم وطنَهم الوحيد الذي لا يرتضون به بديلاً، ولا يشعرون بالحنين لسواه.
4 - تلقَّى هؤلاء المماليك ألوانًا من التعليم والثقافة والتربية والتنشئة، بما يجعلهم أكثر ارتباطًا وامتزاجًا بمصر، فقد كانوا يتعلَّمون إلى جانب الفنون العسكريَّة والحربيَّة علومَ الدِّين واللغة؛ من قرآن وحديث، وفقه وسيرة ولُغة.
وقد ذكَر المقريزي في كتابه "الخُطط" أنَّ هؤلاء المماليك كانوا يُجْلَبُون صغارًا، لَم يَبلغوا الحُلُم، فيقيمون في طوابق القلعة، ويتعلَّمون القرآن الكريم والفقه، والأذكار واللغة العربية، فإذا وصلوا سنَّ البلوغ بدؤوا في تعلُّم فنون القتال؛ مِن رمْي، وطعْن، وضَرْب.
وكان أساتذة هؤلاء المماليك - من أُمراء وسلاطين - يوثِّقون فيهم الانتماءَ لحياتهم الجديدة، بحُسن معاملتهم، والإغداق عليهم من ألوان الخير، ومثال ذلك ما كان يَمنحه لهم السلطان محمد بن قلاوون من أموال وهدايا، وكان يقول: "إذا رأى المملوك سعادة تملأ عينَيْه وقلبه، نَسِي بلاده، ورَغِب في أستاذه".
وكان المماليك يتلقون تعليمهم على أيدي علماء مصريين في مدرسة القلعة التي تسمَّى "بالطباق".
5 - وأجاد كثيرٌ من هؤلاء المماليك اللغةَ العربية إلى درجة عالية، حتى إنهم اشتغلوا بالعلم والأدب وقرَضوا الشعر، وبخاصة في دولة المماليك البُرجيَّة؛ قال ابن إياس عن السلطان المؤيد شيخ: "أن عارفًا بالموسيقى قول الشعر، ويصنع الألحان، وله أشياء كثيرة دائرة بين المغنين إلى الآن".
وقال عن الظاهر جقمق: "كان فصيحًا بالعربية متفقِّهًا، له مسائل في الفقه عويصة يُرجع إليه فيها"، وقال عن السلطان الأشرف قايتباي: "كان له اشتغال بالعلم، كثير المطالعة، وكان متقشِّفًا فيه نزعة صوفيَّة".
6 - أدى المماليك دورهم التاريخي العظيم في الدفاع عن مصر وعن العالم الإسلامي، فردُّوا عنها غارات الصليبيين والمغول بكلِّ بَسَالة وإخلاص، ولَم يتوانوا في ملاحقة هؤلاء الغُزاة حتى استأْصلوا شأْفَتهم، ولَم يُفكر أحدٌ منهم في التخلي عن واجبه أو مهادنة هؤلاء الأعداء، كما يفعل غيرهم من المرتزقة والمجلوبين، ولَم يقل أحدٌ منهم: إنها ليستْ بلادنا ومواطننا حتى نموت من أجْلها، وذلك إلى جانب دورهم الحضاري والعمراني الذي لا يُنكره أحد.
7 - كان هؤلاء المماليك على وعْي بانتمائهم المصري، وكانوا يَفخرون بأنهم مصريون، فقد ردَّ السلطان برقوق على تهديدات تيمور لنك المغولي سنة 796 هـ قائلاً: "إن خيولنا برقية، وسهامنا عربيَّة، وسيوفنا يمنيَّة، وليوثنا مصريَّة"، وكان يحرصون على أن تكون مدافنهم ومقابرهم في أرض مصر، فيذكر ابن إياس أنَّ سلامش بن الظاهر بيبرس عندما توفي في منفاه بالقسطنطينيَّة سنة 690 هـ وضعتْه أُمُّه في تابوت وحملته معها إلى مصر عندما سُمِح لها بالعودة إليها سنة 696هـ، ودفنتْه في إحدى مقابر مصر.
وكان المؤرِّخون يُطلقون على المماليك لقب: "الأُمراء المصريون"، وهذا واضح تمامًا في كتابات المقريزي والجبرتي.
وقد تزايَد شعور المماليك بالانتماء إلى مصر في الجيل الثاني والثالث من أبنائهم؛ حتى أصبحوا مصريين تمامًا، أمَّا العُزلة التي يشيرون إليها، فإن المماليك لَم يكونوا في عُزلة كاملة، فقد تزوَّج عددٌ منهم من مصريَّات من بنات القُضاة وكُبراء المصريين، وقد فرضَتْ عليهم طبيعة حياتهم العسكريَّة والمهمة المنوطة بهم أن يكونوا في ثكناتهم وقلاعهم؛ لتوفِّر لهم الانضباط والالتزام، والتعليم والتدريب، وهذا موجود في كلِّ نظام عسكري إلى اليوم.
8 - ظهَر من أبناء المماليك عددٌ من العلماء والمؤرِّخين، منهم: أبو المحاسن بن تغري بردي صاحب كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، وابن دقماق (ت 809هـ - 1407م)، صاحب كتاب: "الانتصار لواسطة عقد الأمصار"، وابن إياس صاحب كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وقد تجلَّى في كتاباتهم الشعور بالمصريَّة، وطغَى عليهم التغنِّي بحب مصر وإجلالها وتعظيمها، واتخذوا من تاريخها مجالاً لأعمالهم ودراساتهم.
وفي عصرنا الحديث تمنح بعض الدول جنسيَّتها لبعض الأجانب الوافدين إليها بشروط خاصة، كأن يتزوَّجون من أهلها، أو يشاركون في نهضتها ومؤسَّساتها، أفلا يستحق المماليك بما أدَّوه من دورٍ لمصر وتاريخها أن يكونوا من أبنائها؟
9 - كان معنى الوطن في ذلك الوقت يختلف عما نعرفه الآن في عصر القوميَّات والجنسيَّات، فقد كان معناه "ديار الإسلام"، والدفاع عن الدين والشريعة، ويقول الدكتور عبدالمنعم ماجد: "الدولة في وقت المماليك لَم يكن لها معناها في وقتنا، وإنما هي مجموعة من الناس تحرِّكها الشريعة الإسلامية التي يحافظ عليها الحُكَّام، فعصبيتها تكون للدِّين قبل كلِّ شيء، وكذلك كان معنى المواطنة في ذلك الوقت - إن جاز استعمال هذا اللفظ بالنسبة للمسلمين في العصور الوسطى - هو الانتساب قبل كلِّ شيء لعالم الإسلام".
نشأة المماليك:
كلمة مملوك في اللغة تعني: العبيد الأرقَّاء، وهي مرتبطة بتعبير القرآن الكريم "ما مَلَكت أيمانكم"، و"ملك يمينك"، وقد اتَّخذت مع الاستعمال ومرور الزمن معنًى اصطلاحيًّا، فأصبحتْ تُطْلَق على الرقيق الأبيض دون العبيد السود، الذين يُجلبون لاستخدامهم كجُند محاربين.
وكان المصدر الرئيسي لجلْب هؤلاء المماليك هو بلاد تركستان في وسط آسيا، وكان الترك يُعْرَفون بقوَّة الأجساد وإجادة القتال، وبدأ استقدامُهم في العصر العباسي، عن طريق الأسْر في الحروب أو الشراء من تُجَّار الرقيق، وبدأ الاعتماد عليهم في عهد الخليفة المأمون، ثم استكثَر منهم بصورة واضحة الخليفة المعتصم العباسي (218هـ - 227هـ) كبديل عن عنصري العرب والفرس، وبنى لهم مدينة سامراء شرقي دجلة سنة 221هـ؛ لتكون خاصة بهم، وقيل: إنَّ عددَهم وصَل في عهده إلى سبعين ألفًا، وكان لهؤلاء الأتراك دورٌ كبير في التاريخ منذ ذلك الحين.
ومن أبرز هؤلاء الأتراك أحمد بن طولون، ثم محمد بن طغج الإخشيد اللذَّيْن أسَّسا دولتين مشهورتين في مصر، وكان كلٌّ منهما بدوره يعتمد على جُندٍ من المماليك الأتراك والديلم بصفة خاصة، ثم تابَعهما الفاطميون في هذه السياسة، وكان بالقاهرة في عهدهم سوق كبير لتجارة الرقيق عند الساحة التي تقع في منطقة "بين القصرين"، والتي بُنيت فيها فيما بعد مدرسة الكامليَّة.
واتَّسعت ميادين جلْب الرقيق وتعدَّدت مصادرها، فأصبحتْ تأتي من بلدان آسيا وأوروبا، وجورجيا ومنطقة بحر البلطيق، وكان أهل هذه البلاد يعانون من الفقر وضِيق العيش، حتى كان بعض أهلها يُقبلون على بيع أبنائهم رقيقًا؛ ليضمنوا لهم حياة أفضل، ولعِلْمهم أنهم سيُصبحون جندًا وقادة، ورُبَّما يصلون إلى مراتب الأُمراء والسلاطين، ويقول ياقوت: "إذا وُلِد للرجل من الترك ولدٌ، ربَّاه وعالَه وقام بأمره حتى يَحتلم، ثم يدفع إليه قوسًا وسهامًا، ويُخرجه من منزله ويقول له: "احتلْ لنفسك"، ويُصيِّره بمنزلة الغريب الأجنبي، ومنهم مَن يبيع ذكور ولده وإناثهم بما ينفقونه".
وكان للروم والإيطاليين مستعمرات على البحر الأسود تبيع الرقيق الأبيض من الجورجيين والأرمن، واللان والسلاف، والصرب وغيرهم من الأجناس، وكانوا يُجلبون بكثرة إلى المواني المصرية، أو عن طريق البَرِّ، ولهم أسواق خاصة بهم في القاهرة، مثل: خان الخليلي، وخان مسرور.
وتزايَد الاهتمام بالمماليك في العصر الأيوبي في عهود أعقاب صلاح الدين (ت 589هـ - 1193م)، فقد تنافَس ورثته - من أبنائه وأخوته، وأبناء البيت الزنكي - في الاعتماد على المماليك؛ للاستعانة بهم في الحروب والصراعات التي قامتْ بينهم، فاشتروا المماليك واهتمُّوا بتربيتهم وتدريبهم؛ ليكونوا أساسًا لجيوشهم، فتزايَد نفوذ هؤلاء المماليك في ممالك الشرق الإسلامي، وبخاصة في مصر، واستعانَ بهم الملك العادل والملك الكامل في صراعهما مع خصومهما من أمراء المسلمين، وفي حروبهما مع الصليبيين.
وكان المماليك ينسبون إلى الجنس الذي ينتمون إليه، فيقال للمماليك: الأتراك أو الجراكسة، أو إلى تاجر الرقيق الذي جلَبهم، فيقال: "العثماني"، أو "المحمودي"، أو إلى سيِّدهم وأستاذهم الذي اشتراهم وجعَلهم في خدمته، فيقال: المماليك الأسدية، أو الصلاحية، أو الأشرفية، وأحيانًا يُنْسَب المملوك إلى المبلغ الذي دُفِع عند شرائه، فيقال: "الألفي" أو " الخمسمائة".
ويرجع ظهور المماليك المعروفين بالبحرية أو الأتراك إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ) الذي بدأ في الاستكثار من المماليك بعد أن تفرَّق عنه جُنده الأكراد، وانصرفوا عن خدمته، ولَم يَبق معه إلا القليل، فاتَّجه إلى شراء المماليك وتنشئتِهم نشأة عسكريَّة، ثم أسنَدَ إليهم المناصبَ والمراتب القياديَّة، وجعَل منهم حاشيته وبطانته، وحرَسِه الخاص.
وعندما كَثُرت شكاوى العامة من عبَثِ المماليك واعتداءاتهم، اتَّجه الملك الصالح إلى إسكانهم في جزيرة الروضة وسط نهر النيل، ومِن ثَمَّ عُرِفوا بالمماليك البحرية؛ لإحاطة الماء بمقرِّهم وسكناهم، وكان معظمهم من تركستان وبلاد ما وراء النهر والقفجاق وآسيا الصغرى، وشبه جزيرة القرم وفارس، وبعض البلاد الأوروبيَّة.
وكان المماليك لا يعاملون معاملة الرقيق، بل كانوا يتمتَّعون بامتيازات عالية، وكان يُحرَّرون ويُعتقون، ويتولون أرْقَى المناصب، ويشعرون أنَّ السلطان واحدٌ منهم، وكانتْ ثقافتهم وتربيتهم تعتمد على التعليم الديني والعسكري، ويُخَصَّص لهم معلِّمون للسباحة والرمي، والمبارزة ولعب الكرة، وكان التفوق الحربي والموهبة العسكرية هي التي تَفتح لهم طريق الترقي إلى نيابة السلطنة أو السلطنة نفسها.
ويختلف المماليك عن العبيد؛ في لونهم الأبيض، وفي تربيتهم العسكرية، وعلاقتهم بأستاذهم، وكان يتمتَّعون بالحرية والعِتق بعد إتمام دراستهم، ويكون العتاق بالجملة في احتفال خاص يحضره السلطان والأُمراء، ويحصل المملوك على شهادة خاصة - كما يقول الدكتور عبدالمنعم ماجد - تُسَمَّى "عتاقة"، ويُسَمى "معتوقًا"، ويسمى مُعتقه "أستاذه"، ويُسمى رِفاقه المتخرِّجون معه "خشداشية".
وكانت علاقة كل مجموعة من المماليك الذين ينتمون إلى سيد (أستاذ) واحد فيما بينهم، هي علاقة الخشداشية؛ أي: الزمالة والصداقة.
وأصبحتْ لهم مراتب عسكرية، فمنهم أمير المائة ومقدم الألف، وأمير الطبلخانة وهو الذي يقود ما بين الأربعين إلى السبعين فارسًا، وأقل الأُمراء هم أمراء العشرات والخمسات.
وكانت جزيرة الروضة مقرًّا لهؤلاء المماليك في عهد الملك الصالح، فلمَّا تولَّى السلطنة المعز أيبك، نقلَهم إلى قلعة الجبل إلى أن تولَّى الظاهر بيبرس، فأعاد بناء قلعة الروضة، وأعاد المماليك إليها واستمرَّ الحال كذلك حتى سنة 679هـ عندما تولَّى السلطان قلاوون الألفي، فأسكَنهم بصفة نهائيَّة في قلعة الجبل وأبراجها، فعُرِفوا منذ ذلك الحين بالمماليك البرجيَّة.
وكان أغلب المماليك يوضَعون في أماكن خاصَّة في القلعة تُعْرَف "بالطباق أو الأطباق"، جمع طبقة أو طبق، ويُقْصد بها المدارس العسكرية، وكانت هناك أطباق أخرى خارج القلعة، وكان بعضها كبيرًا يضمُّ ألف مملوك، وكان المماليك يعرفون "بالطباقية والكتابيَّة"؛ لأنهم يدخلون الطباق ويتعلمون الكتابة، وكان يشرف على تعليمهم الفقهاء والمؤدبون والمدربون، ويعوِّدونهم على التمسُّك بالدين والتزام الصلاة، ويُعاقَب المخالفون منهم عقوبات قاسية.
انفراد المماليك بالسلطة:
لَم يكن المماليك مجرَّد أداة في أيدي أمراء وملوك الأيوبيين، بل سَرعان ما أصبَح لهم دورٌ في توجيه دفَّة الأحداث، وشؤون السياسة والحكم، وظهَر ذلك في وقت مبكرٍ عندما حاولوا التدخُّل في تولية السلاطين بعد وفاة الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين سلطان مصر سنة 595هـ، ولَم يكن له سوى ابن صغير في التاسعة من العُمر، فاجتمع أمرُ المماليك الأسديَّة والناصريَّة على استدعاء عمِّه الملك الفضل بن صلاح الدين؛ ليكون وصيًّا عليه، ويتولَّى شؤون مصر؛ وذلك خوفًا من أن يصير الأُمر للملك العادل أخي صلاح الدين، وكانوا يخشون سطوته وبأْسه، ولكن العادل ما لَبِث أنْ سار إلى مصر بجيوش جرَّارة، وتمكَّن من القبض على زمام الأمور، بزعم أنه أوْلَى بالوصاية على الصبي، وعاد الأفضل إلى دمشق.
وبلَغ نفوذ المماليك شأوًا بعيدًا على عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب بن محمد (637هـ - 647هـ) بعد أن انفضَّ مِن حوله أعوانه من الأكراد وغيرهم، فأصبَح جلُّ اعتماده على مماليكه الذين أسْكنهم في جزيرة الروضة وأسماهم بالبحرية، ويقول ابن تغري بردي: إن السلطان "اشترى من المماليك الترك ما لَم يَشتره أحد من أهل بيته، حتى صاروا معظم عسكره، ورجَّحهم على الأكراد وأمَّرهم، واشترى وهو بمصر خلقًا منهم، وجعَلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسمَّاهم البحرية"، ويرى البعض أنَّهم سموا بذلك؛ لأنهم جُلِبوا من أقاصي البلاد عن طريق البحر، ولكنَّ هذا التفسير غير دقيق، فقد كان كثير منهم يُجلبون عن طريق البر أيضًا، فالتسمية منسوبة إلى مستقرِّهم بمصر وسط بحر النيل الذي يسمَّى بحرًا تجاوزًا لاتِّساعه، ويعضد ذلك أن خلفاءَهم سُموا بالمماليك البرجيَّة نسبة إلى مستقرِّهم بأبراج القلعة، برغم أنهم كانوا يُجلبون مثلهم من أقاصي البلاد بحرًا وبرًّا.
وقد استغلَّ بعض المماليك نفوذَهم في العبث والاعتداء على أموال الناس ومصالحهم، فشكا العامة إلى السلطان، فعزَلهم في قلعة بناها لهم في الروضة، وكان ذلك أدعى إلى الْتزامهم وهدوئهم.
وقد تداعَت الأحداث لصالح المماليك في أواخر العهد الأيوبي، فقد طال المرض بالسلطان نجم الدين وتزايَد، وتوافَق ذلك مع قدوم الحملة الصليبيَّة السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وتمكَّنوا من الاستيلاء على دمياط، كما سنذكر بعد قليل، وأصبَح السلطان عاجزًا عن الحركة وحُمِل إلى المنصورة، ثم ما لبِثَ أن توفي سنة 647هـ - 1249م.
وفي وسط هذه الظروف الحَرِجة الدقيقة تصدَّت زوج السلطان "شجر الدر" لهذا الموقف العسير، وكانت كما وصَفها ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور": "ذات عقلٍ وحزمٍ، كاتبة قارئة، لها معرفة تامَّة بأحوال المملكة"، وذكَرها سبط الجوزي في "مرآة الزمان" باسم "شجر الدُّر" بصيغة الجمع، وبعض المصادر تذكرها باسم "شجرة الدر" بصيغة الإفراد، وأصلها جارية للسلطان من أصْل تركي أو أرميني، ثم أصبحَت أُمَّ ولدٍ بعد إنجابها منه ابنه خليلاً الذي توفي صغيرًا، فأعْتَقها وتزوَّجها، وذلك في فترة إمارته قبل أن يتولَّى السلطنة.
وقد رأتْ شجر الدر أنَّ من الحِكمة أن تُخفي عن الجُند والعامة نبأَ وفاة السلطان؛ حتى لا تَفُت في عَضُدهم وهم في أتون حربٍ ضروس، والمعارك محتدمة مع الفرنجة، واستمرَّ كلُّ شيء على ما كان عليه في حياة السلطان، فالسماط يمدُّ كلَّ يوم، والأُمراء في الخدمة، وهي تقول:"السلطان مريض ما يصل إليه أحد"، وكانت تكتب الرسائل والتواقيع بخطٍّ يُشبه خطَّ السلطان