المواقيت في الحج
من عند الميقات - حيث يُحرِم المسلم بنُسُك الحج - من ذلك المكان، ومنذ ذلك الزمان الذي أحرم فيه في ذلك الميقات - على المسلم أن يستقر في أعماقه أنه يبدأ عهدًا جديدًا، وأنه يمضي في الخطوات الأولى للرحلة الهادية المباركة؛ رحلةِ الحج التي أكرم الله تعالى بها المسلمين، ومنحهم من خلالها فرصة يجددون فيها إيمانهم، ويتوبون من ذنوبهم، ويفيؤون إلى خالقهم، ويفتتحون صفحة جديدة نقية، مُحيت منها الذنوب، وغُفرت فيها السيئات ليبدؤوا عهدًا جديدًا، يسيرون فيه على هدْيِ الله ومنهجه؛ طاعةً له، وانقيادًا لحكمه، وتحكيمًا لشرعه، ونأيًا عن الشيطان وما يزين من المعاصي والآثام، وبعدًا عن شرائع البشر وقوانينهم وأنظمتهم الجائرة الضالة القاصرة التي يريد أهل الردة الجديدة أن يجعلوها بديلًا عن حكم الله تعالى وشرعه وكتابه.
من عند الميقات مكانًا، ومن الإحرام فيه زمانًا، على المسلم أن يمنح ولاءه لله عز وجل، ولله وحده، فالطريق الذي تسلكه - أيها الحاج الكريم - منذ الآن وحتى الموت هو طريق الله وحده، كل مسعاك إليه يكون، وكل اتجاهك إليه يكون؛ صلاةً ونسكًا، صومًا وحجًّا، تجارةً وزراعة، صناعةً وعملًا، حكمًا وقانونًا، في المسجد والشارع، والمعمل والمصنع، والمتجر والمدرسة، والبيت والوظيفة، والحقل والثُّكْنَة، وفي كل مكان آخر.
طريقك - أيها الحاج - منذ الآن؛ منذ الميقات زمانًا ومكانًا، هو طريق الله تعالى وحده، وسُحقًا لحياة الرَّفَثِ والفسوق والجدال، وسحقًا لحياة الشر والجاهلية والآثام، وسحقًا لحياة الهبوط والسقوط والعصيان، وسحقًا لحياة الضلال والفجور والضياع، وسحقًا لحياة الصراع الفكري، والتيه العقدي، والمبادئ المستوردة، والمذاهب الوضعية، والجدل الفارغ العقيم، ومهاترات العقول الضالة العمياء.
طريقك منذ الآن من عند الميقات زمانًا ومكانًا هو طريق الله تعالى فقط، والخروج من كل أدران الحياة، والحرص على الحج المبرور للنجاة من كل الذنوب؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه»، يا لها من رحلة فاصلة! ويا لها من بداية جديدة! ويا له من ميلاد جديد للإنسان، ولحقيقة الإنسان، ولفطرة الإنسان! ميلاد يتوضأ بالتوبة، ويتطهر بالتلبية، ويتعطر بالذكر والشكر والاستغفار، ويرتوي بآي القرآن الكريم.
إن المسلم حين يهتف بالشهادة العظيمة الصادقة: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" - يكون قد اكتشف الحقيقة، ويكون قد اعتنق الحقيقة، الحقيقة الكبرى في الحياة، بل كبرى حقائقها على الإطلاق؛ وهي أن الله تعالى هو وحده المتصرف في الكون، المالك لأمره، ليس له شريك ولا شبيه، وأنه قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا إلى الناس؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وعلى الناس جميعًا أن يتبعوه ويطيعوه.
فالتوحيد إذًا لله جل شأنه، والتلقي عنه يكون بواسطة رسوله الذي اختاره واصطفاه، وهكذا تحدد الشهادة الطريق الصادق إلى الحقيقة الكبرى التي يساوي الإيمان بها الهداية كلها، والخير كله، والسعادة جميعًا، والتي يعني الكفر بها الضلالَ كله، والشر كله، والشقاء جميعًا.
تلكُم هي الدلالة الحقيقية لمعنى الشهادة ومضمونها؛ إنها طريق الحقيقة أو هي الحقيقة إن شئت، أما الأركان الأربعة الأخرى - وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج - فإنها معالم الطريق، أو أكبر معالمه، والحج من بين هذه الأركان هو المَعْلَمُ الذي يتوِّج كل المعالم الأخرى؛ لأنه الركن الذي تشترك فيه كل أمة التوحيد لرفع راية التوحيد، ولأنه الركن الذي يطبق المسلم إبَّانه الأركان الأخرى؛ ففيه أداء الشهادة، وفيه الصلاة، أما الزكاة، فيمثلها الإنفاق في سبيل الله؛ إذ يُخْرِج الحاج نفقة الحج من ماله ابتغاء رضوان الله، وأما الصوم، فيحل محله إبَّان الحج امتناع الحاج حتى عن أصغر اللمم، وكظمه الغيظ، وحمله النفس على المكاره، والرضا بالمشقة، فالحج تشترك فيه بصورة وبأخرى كل أركان الإسلام، كما تشترك فيه أمة التوحيد جميعها؛ لإعلاء كلمة التوحيد وإعزازها ورفع راياتها.
وفي الحج اجتماع دائمٌ، قديم حديث، جديد متجدد، باقٍ إلى ما شاء الله عز وجل، اجتماع تلتقي فيه الأمة المسلمة من أقصى الأرض إلى أقصاها، لتمثل حقيقة الحياة كما يريدها هذا الدين، وكما تفتح بابها شهادة التوحيد، وكما تعبر عنها الأركان الخمسة.
إنه اجتماع الحقيقة الدينية كلها في ركن الحج، وإنه اجتماع المسلمين، أهل هذه الحقيقة وحماتها، وحملة مشعل نورها الوهَّاج لهداية الناس جميعًا، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
هو اجتماع الأمة الوسَط، الهادية المهديَّة، المباركة الراشدة، الوصِيَّة على الناس، الشهيدة على البشرية، لتتعاون فيما تفعل، وتتشاور فيما تواجه، وتفكر فيما تستقبل، وتستنبط العبرة مما سلف؛ من أجل إسعاد الإنسان وهدايته، وإعزازه وإكرامه.
إنه اجتماع الخير والصدق والفضيلة الذي لا يشبه لا من قريبٍ ولا من بعيد اجتماعات الناس في مؤتمراتهم الكاذبة؛ حيث يلتقي الزيف والكذب والتزوير، وأكل لحوم الضعفاء، كما في المجالس الدولية الكاذبة.
هذه اجتماعات صنعها البشر، وفيها عيوب كل البشر، والحج اجتماع صنعه الله، فجاء في أحسن صنعٍ، وأتمِّ تكوين.
______________________________ _____________________
الكاتب: د. حيدر الغدير