مثبتات على الدرب
وفي الفتنِ قد يختلط الأمر على ذوي الأحلام والنهى فضلًا عن العامة، فيصعب عليهم رؤية الحق من الباطل لاختلاطهما بالشوائب. وهنا تأتي المثبتات، وهي إشارات ربانية تلمح حتى تضيء للضالِ الطريقَ وتُنِيرَ له الدربَ، فيسير على هُدَى بعدما انْقَشَعَ الظلامُ عن وجهِ الحقِّ الأبلج.
وأشدُّ ما تختلط الأمور عندما يكون لَدَى الطرفين حجةٌ دامغةٌ مِنْ القرآنِ وسنةِ خيرِ الأنَام، فَكِلا الطرفينِ مسلمٌ موحدٌ، وهذا قد يكون كحالِ قتالِ أهلِ البغيِ، كما قال المولى سبحانه وتعالى: {وإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ? فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى? فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى? تَفِيءَ إِلَى? أَمْرِ اللَّهِ ? فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ?}[1]. هذا أشد أنواع الفتن، أن ترى الفريقين مؤمنين فإلى أيِّ الفريقين تنتمي؟ أمَّا صراع المسلمين مع الكفار فهو محسومٌ بطبيعة الحالِ، ولا يسألُ عن كُنْهِ الصراعِ إلَّا مُتَخَاذِلٌ أو جبانٌ أو منافقُ معلومِ النفاق.
وإليك باغي الحق هذا المثال الذي هو نبراس البيان لمعرفة الحد الفاصل بين الحق والباطل عند احتدام الصراع بين طرفين كلاهما من الموحدين. هل تعلم ما حال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه في أحداث الفتنة؟ خزيمة ذو الشهادتين لم يحسم أمره ـ إِنْ صح الخبر كما ذكر الهيثمى ـ إلى أحد الفريقين بل انتظر حتى شاهد مقتل عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ يوم صفين وهنا حسم أمره لما رأى من المثبتات على طريق الحق، فقد عُلِمَ أنَّ عمارًا تقتله الفئة الباغية.
فانضم خزيمة إلى معسكر عليٍّ رضي الله عنه. ولك أن تتخيل بُنَيَّ كيف لمثلِ خزيمة أَنْ يحتارَ، بل كيف لمثل من هو أعظم من خزيمة أن يعتزل الأمر برمته، ألَّا وهو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فالأمرُ كان جدُّ ملتبس حتى على خير القرون من أصحاب خير البشر. فعليٌّ رضي الله عنه - خير أهل البيت من الرجال بعد النبى العدنان ورابع الخلفاء الراشدين وزوج فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام - يريد أن يقيم الحدود على قتلة عثمان بعدما تستقر الأمور لِمَا لِقَتَلَةِ عثمانِ من شوكةٍ ولِمَا لحالِ الأمَّةِ مِنْ ضعفٍ، وعلى الجانبِ الآخر هذا معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما - خالُ المؤمنين وكاتبُ الوحي ـ ولي دم عثمان يرى أنَّ حدًا من حدود الله قد أُبْطِلَ. وفِي الفريقين صحبٌ كِرام، فهنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما وغيره، وهناك الرجل الصالح عمرو بن العاص رضي الله عنه. و مما زادَ الأمر إبهامًا أحداث الجمل، إذْ قُتِلَ فيها بشرٌ كُثُرْ واستشهد رجلين من العشرة المبشرين بالجنة الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما، وكان قتلهما في حربٍ مع فريق عليٍّ رضي الله عنه، رغم أنهما بصحبة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ابتغوا صلحًا بين الطائفتين، بل ورغمًا عن علي رضى الله عنه الذي كان أشدَّ الناسِ حرصًا على عدم إراقة الدماء، فعليٌّ رضي الله عنه أنكر هذا القتل بل بَشَّرَ قاتلَ الزبيرِ بالنَّارِ، ولكنَّها هكذا الفتن. مع كل تلك الأمور الحالكة، تظهر المبشرات لتنير الدرب، أين الحق وأين الباطل؟ فيأتى مقتل عمار مبشرًا بأن فريق معاوية رضى الله عنه هو الفئةُ الباغيةُ، لأنَّ عمارًا تقتلهُ الفئةُ الباغية. وهذا ما ندين لله عز وجل به، أنَّ عليًا اجتهد فأصاب فله أجران، وأَنَّ معاويةَ اجتهد فأخطأ فلهُ أجرٌ واحدٌ. غفر الله للجميع، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ? لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ? وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? }[2].
ولكن هذا فيما فيه دليل صريح من قرآن وسنة، فكيف الحال إذا انعدم الدليل الصريح؟ يأتى هنا الدليل الخفي وهو بلا شكٍّ من القرآن والسنة أيضًا. فهبَّ أنَّ هناك فئتان من المؤمنين اقتتلوا فلم نستطع الصلح بينهما فبغت إحداهما على الأخرى، فما السبيل؟ كيف تعرف أنَّ أحدهما هو الباغي و ليس المبغي عليه؟ انظر إلى المثبتات. فمثلًا انظر إلى أيِّ الفريقين يمتاز أهل التقى والصلاح من أهل القرآن والإيمان. فإن تساويا - ويصعب ذلك - فإليك هذا السبيل الذي لا يخطئ وهذا عندما تسيل الدماء. انظر إلى قتلى الفريقين وانظر إلى حالتهم قبل الموت وبأيِّ خاتمةٍ خُتِمَ لهم، فمن خاتمة السعادة أّنْ يبتسمَ المرءُ عند الموت فالشهيد كما نعلم يرى مقعده من الجنة، وكذلكتكالب أهل الخير في الجنائز كما قال أحمد (بيننا وبينكم الجنائز).
وإليك دليلًا آخر، فالصدق والكذب نقيضان لا يجتمعان كما أنَّ الحق والباطل ضدان لا يستويان. فالصدق منارة نور الحق، {عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا}، والكذب مستنقع زيف الباطل {وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا}.
ولا ريب أنَّ الحقَّ الصافي لا يشوبه كذبٌ قط، فإن شابه كذبٌ ففيهِ من الحقِّ - وهو ا?صل - بنسبة ما فيه من الصدق. وكذا الباطل، ربما يصدق في أشياءٍ ويدلس في أخرى، ويكذب في الغالب فهذا كالشيطان حين صدق أباهريرة ـ رضي الله عنه ـ وهو ـ أي الشيطان ـ كذوب. فعلى راغب الحقِّ الذي اختلطت عليه ا?مور أن يفتش بنفسه وعقله عن منبع الصدق، فريثما وجد الصدق في كفةٍ أرجح رجْحَانًا غالبًا فهذا هو أقرب الفريقين إلى الحق، وإنْ تساوت الكفتان حيث لا تفرق بينهما كمن لا يفرق بين الخيط ا?بيضِ من الأسودِ قُبَيْلَ الفجرِ فاعلم أنَّ كلا الفريقين على ضلال. واعلم ولدي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كذب قط ـ فهو الصادق الأمين ـ لأنَّ رسالته هي الحق المبين. أمَّا أهل الكفر والضلال من قريش افتروا عليه إثمًا عظيمًا فقالوا ساحرٌ وما هو بساحرٍ، وقالوا كاهنٌ وما هو بكاهنٍ وقالوا وقالوا، حتى أكبهم الله على مناخرهم في جهنم وبئس المصير.
وإليك راغب الحق موقفين من مواقف عزة أهل الحق على أهل الكفر لتعلم الفرق بين الصدق والكذب. أتذكر معي حوار أبى سفيان رضى الله عنه يوم كان كافرًا مع هرقل عظيم الروم، إذ قال: ولولا أن يؤثرون عليَّ كذبًا لكذبت. فهذا أبو سفيان منعته أخلاق العرب - وخيركم في الجاهلية خيركم في ا?سلام إذا ما فقهوا - من الكذب لتبرير باطل كفره آن ذاك. ولكن الشاهد هنا أنَّهُ فكر في الكذب إذ أنَّ الصدق هنا لا ينجي لأنه على الباطل، وأين أخلاق العرب من الأَنَفَةِ من الكذب كما قال أنس ـ رضي الله عنه ـ وما كنا نعرف الكذب. أما الموقف ا?خر غُلَيْمَ الحق هو حوار جعفر الطيار رضي الله عنه مع النجاشي رضي الله عنه يوم افترى عليهم عمرو بن العاص رضي الله عنه - يوم كان كافرًا - بهتانًا عظيمًا. فكان مما قال في بهتانه عليهم أنَّهم سفهاء ـ وكذب إذ قال ذاك ـ فهم أشراف قومهم وسادتهم. وانظر معي إلى نور حجة جعفر وصدق بيانه ـ إِذْ هو على الحقِّ المبين ـ إِذْ دَحَضَ فِرْيَةِ عمروٍ وألقاها في غيابات الجبِّ، والحوار في كتب السنة لمن يعتبر. ولكن أعظم ما ردَّ به جعفر هو آي القرآن الكريم إذْ إنَّه الحق المبين، {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ ?}[3]. و?نَّ الصدق نورٌ في ذاته والكذبَ ظلماتٌ بعضعا فوق بعض، فما كان من النجاشي إلا أن ردَّ عمروًا وحزبه خاسرين يجرون خُفَّيَّ حُنَيْن. وهذا فاعلم بني أنَّ الصدق منجاة ?هل الحق والكذب استدراك من الله عز وجل لأهل الباطل، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ?}[4].
وفي النهاية، فاعلم ولدي، أن الكثرة لا تعني الحقِّ، بل على النقيضِ فأهلُ الحقِّ دومًا قلة وأهل الباطل هم أكثر عددًا وعتادًا، وانظر إلى مسيرة الأنبياء من لدن آدم عليه السلام. ولا تسلم الحياة إلا بوجود هذه الفئة المؤمنة الصابرة التي تدافع أهلَ الباطل، ولولا هذه السنة ـ أي سنةُ التدافع ـ لفسدت الأرض، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَ?كِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ?}[5]. ورغم قلة العدد والعتاد يأتي النصرُ من الله عز وجل إذا ما آمنوا وصبروا، قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ? وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ?}[6]، فاصبر واحتسب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?}[7]، عسى الله أن يقطع دابرهم{فَقُطِعَ دَابِرُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ ? وَ?لْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ?لْعَ?لَمِينَ ? }[8].
[1] سورة الحجرات، آية 9.
[2] سورة البقرة، آية 134.
[3] سورة آل عمران، آية 60.
[4] سورة الرعد، آية 19.
[5] سورة البقرة، آية 251.
[6] سورة البقرة، آية 249.
[7] سورة آل عمران، آية 200.
[8] سورة الأنعام، آية 45.
______________________________ _______________________
الكاتب: د. أحمد أبو اليزيد