القراءة الممتعة!
القراءة الممتعة هي أكثر ما يبقى ويؤثر في النفس والعقل والروح، وهي أدوم ما يرسخ في الذاكرة، وهي التي يسهل استدعاء المعارف المتصلة بها وتوليد معارف أخرى منها، الكتاب الذي نقرؤه مجرد إلزامٍ قسري للنفس ونشعر ونحن نمسكه أننا أمام هذرمة مملَّة لمؤلف ثرثار، لا نكاد نذكر منه شيئا بعد شهور فضلا عن سنوات، هذه حقيقة نجدها جميعا في أنفسنا.
يجب علينا أن نسعى لأن نستمتع بما نقرؤه ونتعلمه من الفنون، ينبغي أن تكون المتعة هدفا ولو بعيد المدى مع ما نرسمه لأنفسنا من علوم وكتب وبرامج، لأنه بهذه المتعة تتضاعف طاقاتنا في التحصيل.
إذا أردت أن تعرف هل أنت تستمتع في مطالعة فن ما أو كتابٍ ما فانظر إلى جوابات التساؤلات التالية: هل يمكن أن تفكر به حتى في غير الأوقات المحددة للقراءة؟ هل يحصل أنك تفتح ذلك الكتاب لا إراديا أحيانا؟ وهل يحدث أنك تتجاوز الصفحات المحددة لكل يوم بلا شعور؟
لي صديق يحفظ تفاصيل دقيقة متعلقة بنزاعات فكرية عارضة بصورة تبعث على الدهشة، حتى إنه ليستطيع وهو مسترخٍ على أريكة أن يسرد ببلوجرافيا الخارطة الفكرية المرتبطة بالخلافات بين الجماعات الإسلامية مصحوبة بذكر الأسماء والأعلام والكتب والتواريخ وحجج كل طائفة على الأخرى، وهذا الصديق يطلب علوما نافعة في شطر يومه الباقي، لكن المفارقة اللطيفة أنه لا يستحضر كثيرا مما يقرؤه في هذا المجال، كأن ذهنه الوقاد ينطفئ إذا أراد تشغيل الجانب الآخر منه! وكأن خيوله لا تركض إلا في اتجاه واحد!
لننظر لأنفسنا نحن لماذا نجد طرف إبهامِنا في أثناء تقليب شبكات التواصل لا يفتر عن اللمس والدفع نحو الأعلى طلبا للمزيد، بينما كثير من الكتب التي قررنا أنها مفيدة نمسكها عنوةً ونحدق في ساعة الحائط مرارا ونحن نقرؤها لأننا ننتظر انتهاء الساعة أو الساعتين المحددة للقراءة!
كم مرةً وجدت نفسك تخرج جهازك من جيبك وتفتح تطبيقا تواصليا دون وعي تام بحركة اليد كأنما هي حركة لا إرادية، بينما لا يحصل مثل هذا السلوك التلقائي مطلقا ولا قريب منه مع الفن الذي نلزم أنفسنا بدراسته!
كم مرة وجدت نفسك تدخل يدك في جيبك بعد الصلاة مباشرة لتتحسس جهازك ثم تتذكر أنك في المسجد لم تكمل الأذكار فتدهمك جحافل الخجل من الناس فتدع الجوال وتخرجها بحركة سريعة غير لافتة للانتباه، لكن لا قلَّما يحصل مثل هذا السلوك مع الكتاب الأول في الفن الذي تود أن تتقنه!
لماذا بعض قراءاتنا نشعر بأنها ممتعة رغم كونها تخصصية في مجالات دقيقة وفيها تفاصيل معقدة، بينما تتبخر هذه المتعة وتتحول القراءة لعملية مجاهدة ومعاناة ومكابدة في مجالات أخرى!
هناك أجوبة قريبة تتعلق بخفَّة المعارف التواصلية بينما المعارف التي نقررها لأنفسنا غالبا ما تكون ثقيلة، لذا نستمتع في الأولى دون الأخرى، وفي الحقيقة أن هذا الجواب لا يصمد أمام البحث والنظر الدقيق، فهناك مَن يستمتع بمطالعة علوم يستثقلها غيره، وهناك من لا يطيق إدامة النظر في المعارف التواصلية مع أنه يجرد علوما في غاية التخصص والوعورة.
السبب الحقيقي الذي يقف وراء المتعة العقلية في مطالعة الفنون والكتب، هو أن هذه المتعة مرتبطة بالأرضية المسبقة لكل علم، ومتعلقة بالارتباطات الشرطية لكل فن ، ومتصلة بالقوالب الذهنية المرتبطة بهذا الكتاب أو المؤلف!
وهذه الارتباطات الشرطية والقوالب الذهنية تأتي مع أمرين :
١-الإرغام ٢-الصوم.
١-إرغام النفس على القراءة المتواصلة في المجال الجديد حتى تستقر البذور في باطن تربة النفس وتتصلب جذوع الارتباطات الذهنية وتستقر القوالب العقلية لهذا العلم أو مواضيع ذلك الكتاب، وكل هذه تنشأ مع المعايشة والتفتيش وإدامة النظر، ونحن غالبا لا نقصر في هذا، وإنما يأتي أكثر تقصيرنا مع الأمر الثاني.
٢-الصوم -قدر الإمكان ولو نسبيا- عن غيره من التفاهات أو المطالعات الأخرى المزاحمة ولو لم تكن تافهة! حتى تذبل قيمتها في النفس فتزول تدريجيا شرائطها الذهنية وقوالبها العقلية، فإن طاقة النفس محدودة بطبيعتها، وإن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة وتؤثر في قيمتها!
_______________________________________________
الكاتب: سليمان العبودي