(إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مَعَاشِرَ المسلمين ... هذا يومُ عِيدِنا "يوم الحجِّ الأكبرِ"؛ يومٌ يَرْبِطُ حَاضِرَنا بماضِينا؛ لِنَسْتَلْهِمَ منه الطريقَ الذي ينبغي أن نسيرَ عليه، ومِن بينِ الدروسِ الكَثِيرةِ التي تَفُوحُ مِن هذه المُنَاسَبةِ العَظِيمةِ، نقتطفُ هذه المعاني؛ لعل اللهَ أن ينفعنا بها.
إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ:
لقد ضَرَبتْ هَاجَرُ عليها السلام المَثَل الرَّائِع لكلِّ المؤمنينَ "رِجَالًا ونِسَاءً" في الثِّقَة باللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَقَد تَرَكَها إبراهيمُ عليه السلام هِي ورَضِيعَهَا إسماعيلَ عليهما السلام في صَحَرَاء جَرْدَاء، وهو ما لا يمكن لإبراهيمَ عليه السلام أن يَفْعَلَه بِوَلَدِه وأمِّ وَلَدِه هَكَذا! ومِن ثَمَّ أيقنتْ هَاجَرُ أنه عليه السلام لا يَفْعَل هذا إلا بوحي، فَسَأَلَتْهُ سُؤَالًا تقريريًّا: "آللهُ أَمَرَكَ بهذا؟!"، فقال لها: "نَعَم"، فقالت تلك الكلمة الإيمانية البليغة: "إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا!".
يا لها مِن كَلِمَةٍ رائعةٍ تُلخِّص حالَ القلبِ العَامِر بالإيمان، وثِقَتِه بالله، ومما يزيد في رَوْعَتِها: أن تَخْرُجَ مِن امرأةٍ تنتظِر المجهولَ لها ولطفلِها!
فكان مِن بَرَكَةِ ثِقَتِها بالله: أن أرسلَ اللهُ لها مَلَكًا يَحْفر لها "بئر زمزم" تحت رجل وَلِيدِها، وليؤكِّد لها حُسْنَ ظَنِّها بالله، وليكرر عليها: "إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ".
إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ: فَيَلْطُف بهم في قضائه وقَدَرِه، وإن قَدَّر عليهم مَكْرُوهًا أفرغ عليهم صَبْرًا، "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله تعالى: "وَكُلُّ مَنْ وَافَقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ خَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)؛ فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلنَّصْرِ هِيَ لِمَا جَاءَ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَهَذَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ وَجَرَّبْنَا مَا يَطُولُ وَصْفُهُ".
وهَكَذا رأينا في قِصَّةِ هَاجَر عليها السلام، كيف كانت عَاقِبَةُ حُسْنِ ظنِّها بالله: أن كانت تلك البِئْرُ المُبَارَكَةُ التي نَهَل العَرَبُ مِن بركتها قديمًا، ثم حينما حُفِرت مرة أخرى -بفضل الله- قُبَيْل ميلاده صلى الله عليه وسلم ظَلَّت بَاقِية له ولأمته "طعام طُعم، وشِفَاء سُقم" إلى يوم الدِّين.
لقد تَحَدَّثَ أحدُ كِبَار المتخصصين في الطِّبِّ: فبيَّن أن إيمانَ المؤمنِ يعطيه قوةً ودافعًا لكي يمرَّ مِن المَصَائِب، ولا يَدْخُلَ في دَائِرَةِ القلق والاكتئابِ المَرَضي، وهذا ما قد عَبَّر عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" (رواه مسلم)، ولم يُنْكِر الرَّجُلُ أن مِن الأمراضِ النفسيةِ ما يُصِيبُ النَّاسَ رغم صَلَاحِهِم، ولم يَقُل: إن مَن أُصِيبَ بالمَرَضِ النفسي أيًّا ما كان سَبَبُه لا يُعَالَج، ولكن مِن القوم مَن أَحْزَنَه مُجَرَّدُ أن يوجدَ مَن يذكِّر الناسَ أنهم في حَاجِةٍ مَاسَّةٍ إلى الإيمانِ لصَلَاحِ أحوالهِم في الدنيا والآخرة!
وهذا مما يجعلنا نُدْرِك حجمَ التَّحَدِّياتِ التي تُحَتِّم علينا أن نَسْعَى إلى أن يكونَ الدِّين دائمًا في مكانِهِ الطبيعي كمرجعيةٍ عليا للفردِ والمجتمعِ في ظلِّ مطاردةِ العلمانيةِ له؛ حتى إنها لا تُرِيدُ ذِكْرَه، ولو في مُنَاسَبةِ الوقاية مِن أمراضٍ تفتكُ بالمجتمعِ! فهذا الذي انتحرَ لمَّا رفضتهُ فتاةٌ، وذاك الذي قَتَل فتاةً؛ لأنها رفضتْ خِطْبَتَه؛ لم يكونا يعانيان مِن مَرَضٍ نفسي رَاجِع إلى خللٍ عضوي في الأساسِ، ولكنهما -وأمثالَهما- شابان تُرِكَا عُرْضَةً لفنونٍ تربِّيهم على أن مشروعَ الحياةِ الأولِ والأخيرِ للإنسانِ هو حبُّ فتاةٍ بعينِها، ثم تُبيِّن له أن مَن فَقَد هذا؛ فلا قِيمة لحياتِهِ، أو لا ينبغي أن يَتْرك مَن مَارَسَتْ حَقَّها في رفضِهِ تَعِيش!
مجتمعٌ يقتلُ نفسَه ... ومع هذا لا تريدُ العلمانيةُ مِن أحدٍ أن يَنْصَحَ المجتمعَ أو يذكِّرَه بأن الالتزامَ بالدِّين والبُعدَ عن الشَّهَوَاتِ هو مِن أهمِّ وَسَائِل حمايةِ المجتمعِ، ولكن كما قال تعالى: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا".
إِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ: فيخرجهم من الظلماتِ إلى النورِ، بل كل مَن لم يكن مِن أهلِ الله، ومِن أتباع شريعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو ضَائِعٌ في بحورٍ متلاطمةٍ مِن الشبهاتِ والشهواتِ، "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَ?ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".
وبِقَدْر هذا الابتعادِ عن شَرِيعَتِه صلى الله عليه وسلم بِقَدْر ما يكون الضَّيَاعُ والغَرَق في بحورِ وظلماتِ الضلالاتِ والخرافاتِ؛ فلا يمكن أن يكونَ مهتديًا في نورِ الكتابِ والسنةِ، مَن اتَّبَع أو دَعَا إلى خِلَاف ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم مِن التَّوجُّه إلى اللهِ تبارك وتعالى وَحْدَه، وصَرْفِ عباداتِ القلبِ والجوارحِ له دون مَن سواه ممَّن يُدْعَون مِن دونهِ وتُصْرَف لهم الدعوات والنذور، بل والخوف والرجاء، مع عدم تسمية ذلك عبادة لهم، وإنما توسلٌ بهم إلى الله وتبرك بهم، وهذا ما قاله الكفار الأولون: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"؛ فلم ينفعهم ذلك عند الله، وردَّ اللهُ عليهم بقوله: "قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا".
أو مَن كان يلجأ إلى غيرِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ بزعم أنهم أولياءُ متصرِّفون في الكونِ أَوْكَلَ اللهُ إليهم ذلك، أو يُعتقَد فيهم النفعَ والضرَّ؛ بزعم أن اللهَ أقدرهم على ذلك كَرَامةً لهم! وقد قال تعالى: "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ"، وقال عز وجل: "قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ".
ومِن عجيب أمر البعض: أنه حِين يجدُ في قلبِهِ حاجةً فطريةً إلى التَّعَبُّدِ والتذللِ لخَالِقِه، ثم يزينُ له شيطانُه أنه لا يعرف خَالِقَه ولا الطريقَ إليه، فيبحثُ عن مخلوقٍ تتجلَّى فيه صفاتُ الإلهِ بزعمِهِ؛ فلا يجدُ إلا البقرةَ لكي يقدِّسَها، ويعبدَها العبادةَ التي كان ينبغي أن يتوجَّه بها إلى خَالِقِه!
والأعجب مِن هذا: أن أجدادَ هؤلاء لما سَافَر إليهم أجدادُنا تُجَّارًا، فرأوا كيف أثَّرت فيهم مراقبةُ اللهِ الخَلَّاقِ العليمِ الذي يراهم، ويعلمُ سِرَّهم؛ أيقنوا أن أديانَهم الباطلةَ سرابٌ شغلهم عن مطلوبهم الحقيقيِّ الفطريِّ الذي فُطِرَت قلوبُهم على طلب محبتهِ والتَّقَرُّبِ والتذللِ له، فدخلوا في دين الله أفواجًا، وبقيَ منهم مَن بقيَ عصبيةً لدين آبائه وأجداده، ولكنهم في زماننا طمعوا فينا؛ لضعفِنا، وقِلَّةِ اعتزازِنا بديننا، وتقصيرِنا في بيانه وتوضيحه؛ فصار بعضهُم يطعنُ في الإسلام، وفي النبي عليه الصلاة والسلام!
وإنما طمع هؤلاء مِن يومِ أن غَابَت عنا تلك الحقيقةُ الناصعةُ: أننا ينبغي أن نشكرَ اللهَ أن أخرجنا مِن الظلماتِ إلى النورِ، ومِن شكرِ اللهِ على هذه النعمة: أن نعملَ على إخراج البشرية جمعاءَ مِن الظلمات إلى النور، كما قال ربعيُّ بنُ عامرٍ رضي الله عنه: "إن الله ابتعثنا لنخرج العِبَادَ مِن عبادةِ العِبَادِ إلى عبادة ربِّ العبادِ، ومِن جَوْر الأديانِ إلى عَدْلِ الإسلامِ، ومِن ضِيقِ الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرةِ".
إن الله لا يضيع مَن اتَّبع شرعه، بل مَن أعرض عنه تكون حياته ضنكًا: قال الله تعالى: "قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى".
ومِن تَمَام إيمانِ المؤمن بالله وثِقَتِه في اللهِ: أن يثقَ أن شَرْعَ اللهِ هو الذي يكفلُ له السعادةَ والهناءَ، وأن أي مخالفةٍ لشرعِ اللهِ وإن كان فيها شهوةٌ عاجلةٌ؛ إلا أن عواقبها وخيمةٌ؛ فإن اللهَ تعالى لا يُحَرِّم شيئًا إلا إذا كان خبيثًا أو كان الغالبُ عليه الخَبَث، كما قال تعالى في صفةِ النبي صلى الله عليه وسلم: "يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ"، وقال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا".
أختي المسلمة ... أيُعقَل أن يتسرَّبَ إليكِ الشكُّ بأن شرعَ اللهِ يضيعُكِ؟!
قالت هاجرُ عليها السلام -وكلها ثِقَة بالله- في أمرٍ قَدَريٍّ: "إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا!"؛ رغم أنها كانت بالفعل في مصيبةٍ لا تدري على ماذا سينتهي بها أمرها؟! لكنها قالت ذلك؛ ثِقَة بربها عز وجل.
ومِن باب أولى: ثِقَةُ المؤمناتِ في شرعِ اللهِ، وتسليمُهن له، وهكذا كانت الصحابيات الجليلات، وانظرن إلى هذا الموقف عن أُمِّكُن عائشةَ رضي الله عنها، فعن صفية بنت شيبة قالت: بيْنا نحن عند عائشة: فذكرْنَ نساء قريش وفضلَهنَّ، فقالت عائشة رضِي الله عنْها: "إنَّ لِنِسَاءَ قريشٍ لفَضْلًا، وإنِّي -والله- ما رأيتُ أفضلَ مِن نِسَاءِ الأنصارِ أشدَّ تصديقًا لكتابِ الله، ولا إيمانًا بالتنزيلِ؛ لقد أنزلتْ سورةُ النور: "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ"، انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إليهن فيها، ويَتْلو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم معْتجِراتٍ كأنَّ على رُؤوسِهِنَّ الغِرْبَان".
نعم، هذا الحِجَاب أَمَرَ اللهُ به، وحَمَل الرجالُ الذي يُدْرِكون معنى القوامةِ على حقيقتِها -مِن: الحِفْظِ والرِّعَايةِ والقِيَامِ بالأمرِ- هذا الأمرَ إلى زوجاتِهم، فما كان منهن إلا أن ابتدرنَ التنفيذَ؛ إيمانًا وتصديقًا.
العَدْل بين الزوجين لا التسوية الجائرة:
المسلمُ والمسلمةُ يُدْرِكان أن اللهَ حَكَمٌ عَدْلٌ، ويثقان في شرعه تعالى أيَّما ثِقَةٍ، فإذا جاءَ الشرعُ بحقٍّ لأي منهما؛ عَلِم أنه حقٌّ كَتَبه اللهُ له فيأخذه ونفسُه مطمئنة، وإذا كتب عليه واجبًا يتعلَّق بحقِّ الغير عَلِم أن هذا الحق يجب أن يؤدَّى، وأن مصلحةَ الفردِ والمجتمعِ والأسرةِ في هذا، وفوق هذا فإنه عندما يؤديه، يأخذ الأجرَ عند الله.
ولا شَكَّ أن المستشرقينَ ثم أفراخَهم مِن بَعْدِهم ما فتئوا يحاصروننا بالأسئلة حول الشريعة الإسلامية، وهل حقَّقت العَدْلَ المطلوبَ بين الرجل والمرأة أم لا! فإذا بيَّنَّا لهم: أن القاعدةَ العامة في قوله تعالى: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ"، وأن التفاصيل كلها تُصَب في حقوق وواجبات متبادَلة بين الزوجين؛ نفاجأ بهم أنهم يريدون منا أن نميلَ معهم ميلهم العظيم، حينما يريدون إلغاءَ الفوارق النفسية والجسدية بين الرجال والمرأة؛ ليصير كلٌّ منهما نسخةً مِن الآخر، أو هجينًا آخر؛ لا هو رجلٌ ولا امرأةٌ! حتى وَصَل الأمر إلى التلاعبِ الفعلي في الوظائفِ الجسديةِ ليكون لكلِّ طَرَفٍ حقُّ إعادة حذف وإضافة وظائف مِن اختصاص الطرف الآخر!
ووالله، إنهم يوقعون على أنفسهم أقصى عقوبة وهم لا يدرون!
لقد عَاقَبَ اللهُ عز وجل أقوامًا بأن مَسَخَهم خَلْقًا آخر، وأما هؤلاء فلما استباحوا المعاصي والمنكرات سَلَّط الله عليهم أنفسهم؛ فمسخوا أنفسهم بأنفسهم، ولا نملك حِيَال هذا إلا أن نقول: "الحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة".
هل يمكن تقسيم المجتمع المسلم إلى معسكرٍ للرجال وآخر للنساء؟
بالإضافة إلى العدل الإسلامي بين الزوجين علينا أن نتذكر: أن المجتمعَ الإسلامي -بفضل الله- لو طَبَّق كلَّ الأحكامِ الشرعية؛ فسيكون مجتمعًا متماسكًا، بخلاف المجتمعات الغربية التي هَدَموا فيها دورَ الأسرة إلى درجةٍ كبيرةٍ؛ بحيث إن مسئولية الآباء عن الأبناء تنتهي بمجرد انتهاء تعليمهم -على أقصى درجة- إن لم يكن قبل هذا بكثيرٍ!
وبالتالي: فإن الصورةَ التي تسيطرُ على أذهانِهم دائمًا هي صورة رجل وامرأة بمفردهما يُقْدِمَان على علاقةٍ ما، ربما تنتهي إلى تكوين أسرة، وبالتالي تقفز إلى الذهنِ صورةُ الصراع حتى وإن كانت المناسبةُ مناسبةَ شراكةٍ، وتقفز إلى الذهن صورة الرجل القوي الذي سوف ينفرد بتلك المرأة الضعيفة.
بينما في دين الإسلام لا تكون المرأة وحيدة الزواج، بل لا بد وجوبًا أن يتولى وليُّها أمرَ نكاحِها، ولا بد مِن موافقتها وموافقة الولي؛ فهما شريكان في القرار، بل وسائر الأسرة؛ لا سيما أمُّها تدخل في هذه الشراكة مِن باب المشاورة؛ لقوله تعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ".
ومِن ثَمَّ؛ فلا يوجد معسكرُ رجالٍ ومعسكر نساءٍ، ولا يوجد معركةٌ ولا صراعٌ؛ فهذا الأبُ كان قبل سنوات زوجًا، ثم هو الآن ولي لزوجةٍ، وقَبْلَها أو بعدها قد يزوِّج ابنًا ذَكَرًا، ومِن ثَمَّ إذا قلنا في الميراث: إن البنتَ ترث نصف نصيب أخيها، فالعدل هاهنا مكتمل بباقي دائرة وجوب النفقة على الرجال، وبأن زوجها الذي تجب عليه نفقتها يرث ضعف نصيب أخته، وهكذا...
نداء إلى المرأة المسلمة:
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَ?لِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"؛ هذا خطاب مِن الله عز وجل، وليس اختراعَ الفقهاء، ولا تعليمات الأب، ولا الأخ، ولا الزوج، وإن كان يلزم كلَّ واحدٍ أن يرشدَ أهل بيته إلى كلِّ خيرٍ، فهل تثقين في شرع الله تعالى أم في وساوس الشياطين؟! قال الله تعالى: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
وهل تثقين في أن اللهَ العزيز الحكيم قد جَعَل هذه الدرجة في مصلحةِ المجتمعِ تكون لأبيك على أمك، ثم تكون لزوجك عليك، ثم تكون لابنك على زوجته؟!
وهل الصواب: أن ترفضي تلك الدرجة التي قَضَى اللهُ بها -والعياذ بالله- لسوءِ فهم بعض الرجال لها، وسوء استغلالهم لها، أم تطالبي مَن أساء استغلالها بالرجوع إلى الدرجة التي شَرَع اللهُ بالطريقةِ التي شَرَعها سبحانه وتعالى؟!
ألم تسمعي إلى تلك الفتاةِ التي اشتكتْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم لما خَيَّرها صلى الله عليه وسلم اختارت البقاء مع مَن زَوَّجها له أبوها؛ بيد أنها أرادت أن تكون سَبَبًا في وضوح هذا التشريع للأجيال القادمة؟!
إن المعركة القائمة منذ جاءت رياح التغريب إنما هي دائرة "حول عقل المرأة المسلمة"؛ فأعداؤنا يريدون احتلاله، فهم يعلمون أن المرأة المسلمة إن اتبعت أهواءهم؛ فقد فَسَد المجتمع وفسدت الذرية؛ ولذلك خاطبها المصلحون بهذا النداء: "أنتِ نصف المجتمع، وتلدين لنا النصف الآخر؛ فأنت مجتمع بأسره".
فاتقي اللهَ وكوني أداةً لرفعةِ دينكِ، ورفعةِ أمتكِ، وانشري الوعي بدينِ اللهِ وعظمةِ تشريعاتِهِ في حقِّ المجتمعِ ككلٍّ، وفي حقِّ المرأةِ خصوصًا، ويكفي أنك: كبنتٍ، أو أختٍ، أو زوجة، أو أم، تعيشين وأنتِ متبعةٌ لشرعِ اللهِ، وأنتِ في هذا كله تبتغين رضا الله والدارَ الآخرة؛ فإن قابلك كلُّ هؤلاء الرجال بأداءِ واجباتِهم تجاهك كما يلزمهم، فبها ونعمت؛ وإلا فيكفي أن تكوني في رَكْبٍ في مقدِّمَتِه: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وعائشة، وحفصة، وسائر أمهات المسلمين -رضوان الله عليهن-.
صلِّ لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر:
مِن السورِ المُحَبَّبة إلى النَّفْسِ -لكونِها تتحدثُ عن رسولِ للهِ صلى الله عليه وسلم- سورة الكوثر: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ"، وهي سورةٌ ذاتُ صِلَةٍ بعيدِ الأضحى المبارك، حيث مِن معاني قوله تعالى: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ": صلاة عيد الأضحى، ثم ذبح الأضحيةِ.
فمع إقامتِنا لهذه الشعائِر، وحمدِ الله على نِعَمِه: الدينية والدنيوية: علينا أن نتذكرَ أن قولَه تعالى: "إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ"، يشمل كلَّ مَن شنأ شيئًا مما جَاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فكلُّ الأقوالِ التي تَطْعَنُ فيما أجمعتِ الأمةُ عليه مِن وجوبِ الحجابِ على المرأةِ المسلمةِ هي أقوال مبتورة -بإذن الله-، تموتُ بموتِ أصحابِها، أو تُولَد ميتةً؛ ما دامت قلوبُ المؤمنين والمؤمنات عامرةً بالتسليمِ لأمرِ اللهِ تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا".
وستموت الأقوالُ التي تزعم: أن ضرورةَ الحياة المُعَاصِرَة تقتضي إباحة صورٍ مِن التعاملات الربوية!
وستموت الأقوالُ التي تزعم: أن الإسلامَ لم يأتِ بتشريعاتٍ شاملةٍ لكلِّ مناحي الحياة، وصالحة للتطبيق في كلِّ زمانٍ ومكانٍ!
مَعَاشِر المسلمين ...
صَلوا لله وانْحَروا، وأكمِلوا أيامَ التشريقِ بالتكبيرِ حتى نهاية ثالث أيامها، واملأوها بالصدقة، وبرِّ الوالدين، وصلةِ الأرحامِ، والتوسعةِ على الأهلِ والعيالِ، وإظهارِ البهجةِ والسرورِ بعيدِ المسلمين؛ أعادَه اللهُ علينا ونحن منشغلون بطاعتِه، متمسِّكون بشريعتِهِ، متبعون لكتابهِ ولسنةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
وتَقبَّل اللهُ منا ومنكم.
منقول