اهل السنة والجماعة ما يميزهم عن غيرهم هو منهج التلقى لعلومهم ومصدر الحق الذى ينهلون منه عقائدهم وتصوراتهم وعباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم واخلاقهم
فمصدر العلم والحق فى سائر علوم الشريعة عند اهل السنة هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله-:
هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثِرون كلامَ الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدِّمون هدْيَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على هدي كلِّ أحدٍ،
ويتَّبعون آثاره -صلى الله عليه وسلم- باطنًا وظاهرًا.
**
عَنْ سُفْيَانَ الثوري، قَالَ: إِنَّمَا الدِّينُ بِالْآثَارِ.
****
فأهل السنة لا يتلقون أمور دينهم إلا عن مشكاة النبوة، لا عقل ولا ذوق ولا كشف، بل هذه إن صحت كانت معضدة لحجة السمع (الكتاب والسنة) فكيف بمن عارض بها دلائل الكتاب والسنة، وأكثرها جهالات وخيالات فاسدة. وبهذا نفهم كيف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنكر على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- النظر في صحيفة من التوراة، وهو الكتاب المنزل من السماء، وإن شابَهُ التحريف فهو أفضل من كثير من الأقيسة العقلية، والخيالات الصوفية،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما-، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَغَضِبَ وَقَالَ: (( أَمُتَهَوِّكُون َ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي )).
فأهل السنة ينهلون من هذا المنهل العذب عقائدَهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم، وسلوكَهم، وأخلاقهم، فكلُّ ما وافقَ الكتاب والسنة قبلوه وأثبتوه، وكل ما خالفهما ردوه على قائله كائناً من كان. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
قال السعدي رحمه الله-:{فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم،. . . وهذه الآية، مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن، من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر، والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا، ولم يهتد به ويتزك به، من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا بالتذكر بهذا الكتاب.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 51] والنصوص كثيرة في المعنى. - وكما أنَّ لله وحده الخلق والتدبير، فله جل وعلا الأمر كله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. وقد حذَّر سبحانه من التلقي عن غير هذا المصدر
فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
قال شيخ الإسلام رحمه الله-: وإنما المُتَّبع في إثبات أحكام الله، كتابُ الله وسنةُ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وسبيل السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصا واستنباطا بحال.
وقال وهو يتكلم عن منهج أهل السنة: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ وَبِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
قال البربهاري رحمه الله-: واعلم أنه من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله مالا يعلم فهو من المتكلفين، والحق ما جاء من عند الله عز و جل، والسنة ما سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ومن اقتصر على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه الجماعة فلج {ظفر وفاز} على أهل البدعة كلهم واستراح بدنه وسلم له دينه إن شاء الله لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ((ستفترق أمتي)) وبين لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفرقة الناجية منها فقال ما أنا عليه وأصحابي فهذا هو الشفاء والبيان والأمر الواضح والمنار المستقيم.
وقد تمثلت هذه القاعدة في عدة ركائز: أ- اعتقاد كمال هذا الدين وشموله، فلا يحتاج معه إلى غيره من مناهج البشر؛ يقول الله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3]. وقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله-: ومِثلُ هذا في القرآن كثيرٌ، مما يبيِّن الله فيه أن كتابَه مبينٌ للدِّين كله، موضحٌ لسبيل الهدى، كافٍ لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتِّباعُه دون اتباع غيره من السُّبل.
قال ابن القيم رحمه الله-: الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.
وقال ابن القيم رحمه الله- أيضا: فَرِسَالَتُهُ -صلى الله عليه وسلم- كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ عَامَّةٌ، لَا تُحْوِجُ إلَى سِوَاهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ عُمُومِ رِسَالَتِهِ، فَلَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ رِسَالَتِهِ، وَلَا يَخْرُجُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَقِّ الَّذِي تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي عُلُومِهَا وَأَعْمَالِهَا عَمَّا جَاءَ بِهِ. وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لِلْأُمَّةِ مِنْهُ عِلْمًا، وَعَلَّمَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى آدَابَ التَّخَلِّي وَآدَابَ الْجِمَاعِ وَالنَّوْمِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ،. . . . . وَجَمِيعِ أَحْكَامِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. . . . . . . . . وَعَرَّفَهُمْ مَعْبُودَهُمْ وَإِلَهَهُمْ أَتَمَّ تَعْرِيفٍ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ وَيُشَاهِدُونَه ُ بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعَرَّفَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ وَأُمَمَهُمْ وَمَا جَرَى لَهُمْ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مَعَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ كَانُوا بَيْنَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا مَا لَمْ يُعَرِّفْهُ نَبِيٌّ لِأُمَّتِهِ قَبْلَهُ، وَعَرَّفَهُمْ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْتِ وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ فِي الْبَرْزَخِ وَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ مَا لَمْ يُعَرِّفْ بِهِ نَبِيٌّ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ فِرَقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مَا لَيْسَ لِمَنْ عَرَفَهُ حَاجَةٌ مِنْ بَعْدِهِ،. . . . . وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مَكَايِدِ الْحُرُوبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَطُرُقِ النَّصْرِ وَالظُّفْرِ مَا لَوْ عَلِمُوهُ وَعَقَلُوهُ وَرَعَوْهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ لَمْ يَقُمْ لَهُمْ عَدُوٌّ أَبَدًا وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مَكَايِدِ إبْلِيسَ وَطُرُقِهِ الَّتِي يَأْتِيهِمْ مِنْهَا وَمَا يَتَحَرَّزُونَ بِهِ مِنْ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ وَمَا يَدْفَعُونَ بِهِ شَرَّهُ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَحْوَالِ نُفُوسِهِمْ وَأَوْصَافِهَا وَدَسَائِسِهَا وَكَمَائِنِهَا مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ مَعَهُ إلَى سِوَاهُ وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أُمُورِ مَعَايِشِهِمْ مَا لَوْ عَلِمُوهُ وَعَمِلُوهُ لَاسْتَقَامَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ أَعْظَمَ اسْتِقَامَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَجَاءَهُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِرُمَّتِهِ، وَلَمْ يُحْوِجْهُمْ اللَّهُ إلَى أَحَدٍ سِوَاهُ.
***
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله-:
فَدِينُ الْمُسْلِمِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولٌ مَعْصُومَةٌ وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
يقول ابن القيم في سياق الإنكار على مَن جعلوا العقل طاغوتا يُعبد، وجعلوا نصوص الشرع مجرد ظواهر لفظية لا يُستفاد منها اليقين: وكَيْفَ يَشْفِي مَا فِي الصُّدُورِ كِتَابٌ لَا يَفِي هُوَ وَمَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ؟ أَمْ كَيْفَ يَشْفِي مَا فِي الصُّدُورِ كِتَابُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؟ أَوْ عَامَّتُهَا ظَوَاهِرُ لَفْظِيَّةٍ دَلَالَتُهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى انْتِفَاءِ عَشَرَةِ أُمُورٍ لَا يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهَا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ قَبْلَ وَضْعِ هَذِهِ الْقَوَانِينِ الَّتِي أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهَا مِنْ الْقَوَاعِدِ، وَقَبْلَ اسْتِخْرَاجِ هَذِهِ الْآرَاءِ وَالْمَقَايِيسِ وَالْأَوْضَاعِ؟ أَهَلْ كَانُوا مُهْتَدِينَ.
**
قال شيخ الإسلام رحمه الله-: مِنْ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ لَا بِرَأْيِهِ وَلَا ذَوْقِهِ وَلَا مَعْقُولِهِ وَلَا قِيَاسِهِ وَلَا وَجْدِهِ فَإِنَّهُمْ ثَبَتَ عَنْهُمْ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّاتِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ. . . . وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ عَارَضَ الْقُرْآنَ بِعَقْلِ وَرَأْيٍ وَقِيَاسٍ وَلَا بِذَوْقِ وَوَجْدٍ وَمُكَاشَفَةٍ وَلَا قَالَ قَطُّ: قَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ؟!. . . . . وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَقْبَلُونَ مُعَارَضَةَ الْآيَةِ إلَّا بِآيَةِ أُخْرَى تُفَسِّرُهَا وَتَنْسَخُهَا؛ أَوْ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- تُفَسِّرُهَا.
وقال : وَالْأَنْبِيَاء ُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - مَعْصُومُونَ، لَا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا يَنْقُلُونَ عَنْهُ إِلَّا الصِّدْقَ. فَمَنِ ادَّعَى فِي أَخْبَارِهِمْ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ، كَانَ كَاذِبًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، أَوْ ذَلِكَ الْمَنْقُولُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. فَمَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْلِ مَا يُنَاقِضُهُ.
وَمَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْعَقْلَ حَكَمَ بِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ مَا يُنَاقِضُهُ. . . بَلِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - قَدْ يُخْبِرُونَ بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، لَا بِمَا يَعْلَمُ الْعَقْلُ بُطْلَانَهُ، فَيُخْبِرُونَ بِمُحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ.
قَالَ أبو المظفر السمعاني رحمه الله-: وَمِمَّا يَدُلُّ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى الْحَقِّ أَنَّكَ لَوْ طَلَعْتَ جَمِيعَ كُتُبِهِمُ الْمُصَنَّفَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، وَجَدْتَهَا مَعَ اخْتِلَافِ بُلْدَانِهِمْ وَزَمَانِهِمْ وَتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمْ فِي الدِّيَارِ، وَسُكُونِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُطْرًا مِنَ الْأَقْطَارِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَمَطٍ وَاحِدٍ، يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةٍ لَا يَحِيدُونَ عَنْهُ وَلَا يَمِيلُونَ عَنْهَا، قُلُوبُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَنَقْلُهُمْ لَا تَرَى فِيهِ اخْتِلَافًا وَلَا تَفَرُّقًا فِي شَيْءٍ مَا، وَإِنْ قَلَّ، بَلْ لَوْ جَمَعْتَ جَمِيعَ مَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَنَقَلُوهُ عَنْ سَلَفِهِمْ وَجَدْتَهُ كَأَنَّهُ جَاءَ عَنْ قَلْبٍ وَاحِدٍ وَجَرَى عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ، وَهَلْ عَلَى الْحَقِّ دَلِيلٌ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}. . . . . والسَّبَبُ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الدِّينَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَرِيقِ النَّقْلِ، فَأَوْرَثَهُمُ الِاتِّفَاقَ وَالِائْتِلَافَ ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ أَخَذُوا الدِّينَ مِنْ عُقُولِهِمْ فَأَوْرَثَهُمُ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ ، فَإِنَّ النَّقْلَ وَالرِّوَايَةَ مِنَ الثِّقَاتِ وَالْمُتْقِنِين َ قَلَّمَا تَخْتَلِفُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي لَفْظِهِ أَوْ كَلِمِهِ فَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ لَا يَضُرُّ الدِّينَ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولَاتُ وَالْخَوَاطِرُ، وَالْأَرَاءُ فَقَلَّمَا تَتَّفِقُ، بَلْ عَقْلُ كُلِّ وَاحِدٍ وَرَأْيُهُ وَخَاطِرُهُ يُرِي صَاحِبَهُ غَيْرَ مَا يُرِي الْآخَرَ.
وضع البخاري ضمن كتابه الجامع الصحيح كتاباً سماه: كِتَاب الاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ليوضح أن النجاة في الاعتصام بهذين الأصلين.
* وما هلك من هلك، ولا ضلَّ من ضلَّ إلا بسبب الإعراض عن الدليل، وتحكيم العقول وآراء الرجال. قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله-: إِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ رَأَيْتَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ مُخْتَلِفِينَ شِيَعًا وَأَحْزَابًا، وَلَا تَكَادُ تَجِدُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الِاعْتِقَادِ، يُبَدِّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، بَلْ يَرْتَقُونَ إِلَى التَّكْفِيرِ، يُكَفِّرُ الِابْنُ أَبَاهُ، وَالْأَخُ أَخَاهُ، وَالْجَارُ جَارَهُ، وَتَرَاهُمْ أَبَدًا فِي تَنَازُعٍ وَتَبَاغُضٍ وَاخْتِلَافٍ تَنْقَضِي أَعْمَارُهُمْ وَلَمْ تَتَّفِقْ كَلِمَاتُهُمْ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}.
قال الشاطبي رحمه الله-: وَلَقَدْ زَلَّ - بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلِيلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الرِّجَالِ - أَقْوَامٌ خَرَجُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ جَادَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
قال ابن القيم رحمه الله-: وَمَنْ فَارَقَ الدَّلِيلَ، ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَلَا دَلِيلَ إِلَى اللَّهِ وَالْجَنَّةِ، سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكُلُّ طَرِيقٍ لَمْ يَصْحَبْهَا دَلِيلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَهِيَ مِنْ طُرُقِ الْجَحِيمِ، وَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ البصري رحمه الله-: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّالِكِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا لَا تَضُرُّوا بِالْعِبَادَةِ، وَاطْلُبُوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا لَا تَضُرُّوا بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا.
قال الشافعي رحمه الله-: كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ. . . إِلَّا الْحَدِيثَ وَإِلَّا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ
الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا. . . وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله-: فَكَيْفَ يُرَامُ الْوُصُولُ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، بِغَيْرِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؟!.
** وبعد كل هذه النقولات يتضح لنا أنَّ الفرقة الناجية، استقتْ منهجها من مصدرٍ واحدٍ ألا وهو {الوحي}
أما لو نظرت إلى غيرهم من فرق الضلال التي تشعبت بهم الأهواء، لوجدتهم جميعاً حادوا عن النهل العذب والنبع الصافي فلذلك أخطأوا الطريق
الصوفية
مصدر التلقي عندهم الكشوفات التي يصلون إليها والمنامات،
وأهل الكلام
مصدر التلقي عندهم العقليات،
والعلمانيون اليوم مصدر التلقي عندهم هو الغرب وما يحدثه من تشريعات،
وهكذا تجد أن كثيراً من الطوائف لها مصادر تتلقى منها غير الوحي وغير النصوص الشرعية،
وحينئذٍ ستفرز هذه الاهواء والبدع بدع وأهواء ما دامت تتلقى من مصادر غير التلقى الذى بيناه
*****
وحدة المصدر عن اهل السنة :
فلا مصدر يعتمدون عليه في تقرير عقائدهم، سوى الكتاب والسنة وإجماع السلف، ولا يعارضون ما ثبت من ذلك بقياس أو رأي أو هوى . ** فلا شيء أريح للنفس وأطمن للقلب من عقائد السلف، فهي تتفق تمام الاتفاق مع الفطر السليمة والعقول المستقيمة، ولن تجد بحمد لله معارضة أي منها لمقررات العقول أو صحيح المنقول، فلا يمكن أن يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح صريح ألبتة.
[التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة]:
فيقوم منهجهم فيما يتعلق بالاستدلال ومصدر التلقي على قاعدة التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة؛ فهم لا يقبلون تقييد دلالات النصوص بأي معارضات عقلية أو ذوقية تكون حاكِمة على الوحي. فليسوا كمن يجعل شعاره الظاهر التسليم لنصوص الوحي، لكنه في مسالكه العملية يبطن غيرها؛ إذ يجعل اتباع هذه النصوص مقيَّدًا ومرتَهَناً بعدم مخالفتها لما يراه هو وطائفته (مسلمات عقلية!) أو (وَجْدية) أو (ذوقية!) أو غيرها، كحال كثير من الطوائف المنحرفة في هذا الباب