ذاقوا ظمأ الهواجر
كتبه/ محمد مصطفى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن قلوب المحبين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون، فكل حركة وسكنة في هذا الكون تذكرهم بالله والدار الآخرة، فتعلو هممهم إلى مزيد من القرب من مولاهم رب الأرض والسماوات، وتزيد رغبتهم فيما عند ربهم الكريم الذي يجازي على الإحسان إحسانًا، و(هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن:60-61).
لا تغفل قلوبهم عن يوم التلاقي:
فهم متى لامست وجوههم نسمات السحر وذاقوا برده تذكُّروا الجنة ونسيمها.
ومتى رأوا الصواعق أو هبت ريح عاصفة تذكروا إهلاك الله للأمم التي أعرضت عن شرعه -عز وجل-، والله ذو انتقام: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ) (الرعد:13).
ومتى قاسوا شدة البرد تذكروا زمهريرَ جهنم، واستعاذوا بالله منه، ومتى عانوا من شدة الحر تذكروا حر جهنم، فتعوذوا بالله أن تلفح وجوههم النار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) (متفق عليه).
وقد كانت لقلوب السلف عيون ترى من الحرِّ ما لا تراه أعين الغافلين:
فالغافلون لا يرون من الحر إلا الألم والعطش، والتأفف، والتطلع إلى انتهاء النهار، أما السلف فقد كان لهم شأن آخر.
كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، قاله ابن مسعود -رضي الله عنه-، وتلا قوله -تعالى-: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (الفرقان:24).
وكان بعضهم يذكر النار بدخول الحمام حيث الماء الساخن:
دخل ابن وهب الحمام فسمع تاليًا يتلو: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ) (غافر:47)، فغشي عليه.
وتزوج صلة بن أشيم، فدخل الحمام، ثم دخل على زوجته تلك الليلة، فقام يصلي حتى أصبح، وقال: "دخلت بالأمس بيتًا أذكرني النار، ودخلت الليلة بيتًا ذكرت به الجنة، فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت".
وكان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول: "يا بر يا رحيم، مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم".
وقد دارت الدنيا دورتها، وأظلنا شهر الصيام في صيف قائظ:
حيث يشتد العطش بالصائمين، ويزداد نصبهم بطول النهار، وإن كانت قلوب كثير من الناس معلَّقة بوقت الإفطار والتفكير في ألم العطش؛ فإن السلف كان لهم شأن آخر؛ ففضلاً عن تذكرهم أحوال الآخرة والموقف بين يدي الله، والموقف يوم تدنو الشمس من الرؤوس، ويشتد الظمأ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ فإنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن الجزاء من جنس العمل: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة:152)، (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد:7)، (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60)، (إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه).
فمن صام في الحر وصبر على شدة العطش دخل من باب الريان، ومن دخل شرب شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، ثم إذا دخل الصائمون من الريان أغلق فلم يدخل منه أحد غيرهم.
كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور".
وكان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر، وروي ذلك أيضًا عن غيره من السلف.
وقد كانوا -أسكنهم الله فردوسه- يحرصون على ظمإ الهواجر، ويعدونه غنيمة لا يعدلها شيء:
فقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه كان يصوم في الصيف ويفطر في الشتاء.
وكانت عائشة -رضي الله عنها- تصوم في الحر الشديد.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يصوم تطوعًا في الحر، فيُغشى عليه، فلا يفطر.
وكان الإمام أحمد -رضي الله عنه- يصوم حتى يكاد يغمى عليه، فيمسح على وجهه الماء.
وكان مجمع التيمي -رحمه الله- يصوم في الصيف حتى يسقط.
كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرًّا فتصومه، فيقال لها في ذلك فتقول: "إن السِّعر إذا رخص اشتراه كل أحد"، تـُشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم.
ولما سار عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى، فلما أكثر عليه قال: "حاجتي أن ترد عليَّ من حر البصرة؛ لعل الصوم أن يشتد عليَّ شيئًا، فإنه يخف عليَّ في بلادكم".
خرج ابن عمر -رضي الله عنهما- في سفر معه أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: "إني صائم"، فقال ابن عمر: "في مثل هذا اليوم الشديد حره، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وأنت صائم؟!"، فقال: "أبادر أيامي هذه الخالية"، فعجب منه ابن عمر.
نزل الحَجَّاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه، ورأى أعرابيًّا، فدعاه إلى الغداء معه، فقال: "دعاني من هو خير منك فأجبته"، قال: "ومن هو؟"، قال: "الله -تعالى- دعاني إلى الصيام فصمتُ"، قال: "في هذا الحر الشديد؟"، قال: "نعم، صمتُ ليوم أشد منه حرًّا"، قال: "فأفطر وصم غدًا"، قال: "إن ضمنت لي البقاء إلى غد"، قال: "ليس ذلك إليَّ"، قال: "فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟".
نزل روح بن زنباع منزلاً بين مكة والمدينة في حر شديد، فانقض عليه راعٍ من جبل، فقال له: "هلمَّ إلى الغداء"، قال: "إني صائم"، قال: "أفتصوم في هذا الحر؟"، قال: "أفأدع أيامي تذهب باطلاً؟!"، فقال روح: "لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها روح بن زنباع".
بل كان الصيام في الحر من وصاياهم عند موتهم:
فقد وصَّى عمر -رضي الله عنه- عند موته ابنه عبد الله فقال له: "عليك بخصال الإيمان"، وسمى أولها: "الصوم في شدة الحر في الصيف".
وكانوا يتحسرون عند موتهم على فقد لذة ظمإ الهواجر:
فعن عمرو بن قيس أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما طعن جعلت سكرات الموت تغشاه، ثم يفيق الإفاقة فيقول: "اخنقني خنقاتك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحب لقاءك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لمكابدة الساعات، وظمإ الهواجر، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
وعن أشعث بن سوار، قال: دخلت على يزيد الرقاشي في يوم شديد الحر، فقال: "يا أشعث، تعال حتى نبكي على الماء البارد في يوم الظمإ"، ثم قال: "والهفاه، سبقني العابدون وقطع بي".
وربك كريم، يجازي على الإحسان إحسانًا:
قال كعب الأحبار: "إن الله -تعالى- قال لموسى -عليه السلام-: إني آليت على نفسي أنه من عطَّش نفسه لي أن أرويه يوم القيامة".
وقال غيره: "مكتوب في التوراة: طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر، طوبى لمن عطش نفسه ليوم الري الأكبر".
قال الحسن البصري: "تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر الخمر في الجنة تعاطيه الكأس في أنعم عيشه: أتدري أي يوم زوجنيك الله؟ إنه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمإ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي، ترك زوجته ولذته، وطعامه وشرابه من أجلي؛ رغبة فيما عندي، اشهدوا أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك".
من ذاق حلاوة الطاعة هان عليه الألم:
ومن زاد شوقه تلذذ بظمإ الهواجر وجوع النهار الطويل، فالفرق كبيرٌ والبون شاسعٌ بين من صام في حرِّ الصيف ولم يعرف من صومه إلا الجوع والعطش، ومن صام وذاق لذة ظمإ الهواجر.
وإن كان صيامهم في نافلة؛ فإن صيام الفريضة أولى بهذا الفضل والأجر، فأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- ما افترضه على عباده، فالصبر على الألم في الفريضة أحب إلى الله من الصبر عليه في النافلة، وصيام رمضان الذي فرضه الله -عز وجل- على عباده أحب إليه من صيام النافلة، وصلاة الفريضة أحب إلى الله -عز وجل- من صلاة النافلة، والزكاة المفروضة أحب إلى الله -عز وجل- من الصدقات المستحبة، وقد قال الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).
وبعد..
فدونك أخبارهم، فيها عبرة لمن أراد أن يلحق بهم، قد زال تعبهم وبقي الأجر، ومضى ليل النَّصَب وطلع الفجر.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل.