لماذا لا نتسامح
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
أيها المسلمون، وعطفًا على ما تقدَّم من حديثٍ عن التسامُح، ذلكم الخُلق الكريم والوصف النبيل، فإنَّ لنا أن نسألَ: لماذا لا نقدِر في أحيان كثيرة على التسامُح، ولا تجود به أنفسُنا؟! بل لنا أن نذهبَ أكثر من ذلك، فنبحث عن الأسباب التي تمنعنا من التخلُّق بعددٍ من الأخلاق الإسلاميَّة الكريمة، مع سماعنا النصوصَ التي تحثُّ عليها وترغب فيها؟
وجوابًا على ذلك فإنَّنا نذكِّرُ بشيءٍ مما جاء به طبيبُ القلوب عليه الصلاة والسلام حيث قال فيما أخرجه ابن ماجه: «الخير عادة والشر لَجَاجة، ومن يُردِ الله به خيرًا، يُفَقِّهه في الدِّين»؛ (حسَّنه الألباني)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّما العلم بالتعلُّم، والحِلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَه، ومن يتوقَّ الشرَّ يُوقَه»؛ (حسَّنه الألباني)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن يستعْفِفْ يُعِفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغْنِه الله، ومن يتصبَّر يصبِّرْه الله، وما أُعطِي أحدٌ عطاءً هو خير وأوسع من الصبر»؛ (مُتفق عليه) .
إنَّ في هذه الأحاديث الكريمة وأمثالها تبيانًا لِمَا يجبُ أن نجعلَه في هذا الشأن مُنطلقًا لنا وقاعدة نبني عليها أخلاقَنا، ألا وهو أنَّه مع العلم بفضْل كلِّ خُلق حَسن، أو خطورة أي خُلق سيِّئ، لا بد من التفقُّه الدقيق والتفهُّم العميق المؤدِّي للامتثال والتطبيق، وذلك بتعويد النفْس الخير وترويضها عليه، مع تَعْداد المحاولات وتَكرارها، وأخْذ النفْس بالعزيمة والصبر، والتسلُّح بالتصميم وعدم اليأس؛ حتى يُذَلل ما كان صعبًا، ويسهل ما كان حزنًا، ويُقْدَر على ما كان مستحيلاً، بل حتى يصير الخُلق الكريم صفة للنفْس لازمة، ويصبح الخير عادة لا تستنكرها ولا تأنف منها، وحتى يكون بينها وبين الشرِّ أمدٌ بعيد، وحاجز كثيفٌ يمنعها من الاسترسال في المساوئ.
وفي الأحاديث المتقدِّمة حثٌّ على الصبر، وبيان لدوره الكبير في تمكين النفوس من التحلِّي بحُسن الأخلاق، ومِن ثَمَّ فإنه ما استمرَّ أحدٌ على خُلق سيِّئ، ولا عجزَ عن التحلِّي بخُلق حَسن إلا من ضَجَره ومَلاله وعَجَلته، واستسلامه لنزعات نفْسه وانهزامه لهواها في كل مرة، وانسياقه لإغواء شياطين الإنس والجن حينًا بعد آخر، ومثل هذا حقيق بأن يظلَّ مُنحدرًا في أخلاقه من حفرة إلى أعمق منها، وأن يبقى مُنزلقًا إلى مهاوي التبغُّض إلى الآخرين؛ حتى يغدو لديهم شبحًا منبوذًا، وظلاًّ ثقيلاً، تمجُّه مجالسُهم، ولا تتسع له صدورُهم، ولو أنَّه صبَرَ وجاهَدَ نفْسَه على الخير، لتحقَّق له وعدُ الله لمن جاهَدَ نفْسَه؛ حيث قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
أيها المسلمون، إننا نجد أحدَنا وللأسف حين يُخطأ عليه أو يُعْتَدى على حقِّه، يفكِّر أوَّل ما يفكِّر في مقابلة الشرِّ بالشر، ويحسب كيف يردُّ على المخطِئ الصاع بصاعين، ويخطِّط للانتقام منه، وتعليمه درسًا لا ينساه، ومِن ثَمَّ فلا غرابة أن نراه بعد ذلك يحاول أن ينسى ما حدَثَ من أخيه ويسامحه، فيفاجَأ بدوافع الشرِّ التي غَرَسها في نفسه من قَبْلُ وسقاها مرة بعد مرة، وأشعلَ فَتيلَها، واجتذب إليها الوقودَ من كلِّ جانب، يفاجَأ بها تؤزُّه إلى الشرِّ أزًّا، وتدفعه إليه دفعًا، وتحول بينه وبين الخير، وتمنعه منه منعًا، ولو أنه عوَّد نفسَه الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وعلَّمها المسارعة إلى التسامُح بعد كلِّ خطأ، لَمَا وصلتْ به الحال إلى أن تحرِقَ نيران الغضب أواصرَ المحبَّة في قلبه، أو تقطع دوافعُ الانتقام علائقَ المودَّة بينه وبين إخوانه، ومِن ثَمَّ نتبيَّن أهميَّة إيجاد الحلِّ لكلِّ مشكلة بعد وقوعها مباشرة، وعدم تأخير ذلك إلى أن تتفاقَمَ وتكبُرَ آثارُها وتزداد تبعاتها، ويَصْعُب حَلُّها، وهذا ما جاء في كتاب الله وسُنة رسوله؛ قال سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
وفي المتَّفق عليه عن سليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسبُّ صاحبَه مُغضَبًا قد احمرَّ وجهُه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إني لأعلم كلمة لو قالَها، لذهَبَ عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وخرَّج الإمام أحمد، وأبو داود، وصحَّحه الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غَضِب أحدُكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهبَ عنه الغضبُ، وإلاَّ فليضطجع».
والسبب في هذا - أيها المسلمون - أنَّ القائم متهيِّئ للانتقام، مستعد للمبادرة به، فإذا جلس ضَعُف هَمُّه به، وكان أبعدَ عنه، وأما المضطجع، فهو أحرى ألا يفكِّرَ فيه مُطلقًا، ومِن ثَمَّ كانتْ حقيقة الأمر بالاضطجاع هي الأمر بالتباعُد عن الانتقام.
ألا فاتقوا الله - عباد الله - وقدِّموا النيَّة الحسنة، وابدؤوا بالتفكير الإيجابي دائمًا، واحذروا النيَّة السيِّئة، وابتعدوا عن التفكير السلبي؛ ليكنْ تفكيرُكم علويًّا سماويًّا، واحذروا أن يكون سُفْليًّا أرضيًّا، اطلبوا ما عند الله للمحسنين من أجْرٍ، وابتغوا ما أعدَّه من ثواب لمن حَسُن خُلقه؛ فإنكم في زمنٍ قلَّ فيه المحتسِب للأجْر في قضايا التعامُل، بل أصبحَ هَمُّ الكثيرين فيه الانتقام والانتصار للأنفس والتغلُّب على الآخرين، ولو فَقِه المتسامح أنه بتسامحه يتعامل مع ربِّه الكريم ويمتثل أمرَه؛ حيث قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96]، لما سَلَك غير التسامح طريقًا، ولما طلبَ عنه خيارًا آخر، ولا ابتغى به بدلاً، ولو عَلِم المنتقم أنه مطيعٌ للشيطان الرجيم، منهزم أمام كيده الضعيف، لحقَّر نفسَه، واستصغر شأْنَه، ولأَزرَى على ذاته ومَقَتَ تصرُّفَه، لكنَّه توفيق جليل، وحَظٌّ عظيم لا يُؤْتاه إلا مَن عرَف مبدأ نفسه ومنتهاها، فأنزلها منزلتها، ولم يرفعْها فوق قَدْرها، وعوَّدها التفكير العميق في العواقب واستشراف المآلات، وألزمها النظر الصحيح قبل الإقدام، وسَبْر الأمور قبل الغوص في لجج الحياة، وخوض غمار المشكلات؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 35 - 36].
أيها المسلمون، إن مما بُلِيَتْ به المجتمعات في زماننا أن قلَّ فيها المساعِد على التسامح، وندر الْمُعين عليه، وألا يكادَ المتخاصمان يَجِدان مَن يرغِّبهما في هذا الخُلق الكريم، بينما يذهب كثيرٌ من شياطين الناس إلى تذكير كلٍّ من المتخاصمين بعيوب صاحبه، وتنبيهه إلى ثَغراته ومواطن ضَعفه؛ ليؤذِيَه ويتغلَّبَ عليه، ولا يدري العاقل أي مصلحة لمن لا يصدق أن يجدَ خصومة إلا وأقْحَم نفسَه فيها وعمل على تعقيدها؟! أين هو من قوله عليه الصلاة والسلام: «ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليصمتْ»؟!
لكنَّه شُحُّ القلوب بالخير، وضِيق الصدور بالأجر، ودنو الهِمَّة وسطحيَّة التفكير، تتأزَّم بها الأمور وتزداد سوءًا، ويبقى الخِصام يعبث بالعلاقات ويقطع الأواصر، في ظلِّ قِلَّة ممن يأمرُ بتقوى الله، ويذكِّر بما عنده من جزاءٍ لِمَن أصلح وعَفَا، ألا فمتى نتَّقي الله - أيها المسلمون - ونخشاه؟! متى تعلو هِمَمُنا، فنرغب فيما عنده ونطمع في جزيل ثوابه؟! متى ينام الواحد منا وليس في قلبه على أحدٍ من المسلمين غلٌّ ولا حِقد ولا حسد، ولا نيَّة انتقام؟! متى نسارع بعد أيِّ جدالٍ أو خصام، فنَصُبَّ ماءَ التسامح على حرارة الغضب الشيطانية؛ لنخْمِدَ نار العداوات ونطفئها، فنعيش إخوة متحابِّين، متوادِّين كالجسد الواحد؟!
إن الإغضاء عن الزَّلات وتجاوز الهفوات، والعطف على المخطئ والسماحة معه، إنَّه خُلق الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء، إي والله، إنه لَخُلق الأقوياء الأشدَّاء الذين وهَبَهم الله القُدرة على قياد أنفسهم، وملَّكهم زمامَ عواطفهم بما وثقوا فيه من موعوده لِمَن عفَا وأصلح، ومِن ثَمَّ فقد كان القمة في ذلك هو الرؤوف الرحيم صاحب الخُلق العظيم صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنه قالتْ: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قطُّ إلاَّ أخذَ أيسرَهما ما لم يكنْ إثْمًا، فإن كان إثْمًا، كان أبعدَ الناس منه، وما انتقمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قطُّ إلاَّ أن تُنْتَهكَ حُرمة الله فينتقم لله بها"، (وروى الترمذي)، وصحَّحه الألباني عنها رضي الله عنها قالتْ: "لم يكنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا مُتفحِّشًا، ولا صَخَّابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيِّئةَ، ولكن يعفو ويصفح".
ذلكم هو خُلقه؛ فأين المقتدون؟! وتلكم هي سماته؛ فأين المتأسُّون؟!
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرفْ عنَّا سيِّئها؛ لا يصرف سيِّئها إلاَّ أنت، اللهم جنِّبنا منكرات الأخلاق والأهواء، والأعمال والأدواء.
______________________________ __________________
الكاتب: الشيخ عبدالله بن محمد البصري