موعظة الصيف
فإن في تقلُّب الليل والنهار وتحوُّل الفصول - عبرةً وعظةً لنا، كما قال ربُّنا - تبارك وتعالى -: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، وقال - جلَّ شأنه -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، وإذا كان مثل هذا في الليل والنهار، فهو أيضًا في تعاقب الفصول التي هي أيام وليال، فإنَّ فيها عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكِّرين.
إنَّنا نعيش في أجواء فصل الصيف، وهذا الفصل يَمتاز عن بقية الفصول الأخرى بارتفاع درجة حرارة الجو؛ لذلك أردت أن أقف وقفات مهمَّة مع هذا الفصل؛ مع واعظ الصيف؛ لنستلهم الدُّروس والعبر والعظات، ونستفيد من الدروس العظيمة؛ لعلها تكون لنا نبراسًا تضيء لنا طريق النجاة في الدنيا والآخرة.
الوقفة الأولى: الحكمة من الصيف:
من الناس مَن لا يَعلم ما هي الحكمة من إيجاد فَصل الصيف، حتَّى إنَّ منهم من يقول: يا ليت السنةَ كلها شتاء، ولَم يعلم لِم جعل الله بعد الشتاء صيفًا، وبعد الصيف شتاءً، أربعة فصول في السَّنة تدور حول الأرض، تزيد أحيانًا في بلاد، وتنقص أحيانًا في بلاد أخرى، ولكن كلها لحكمةٍ أرادها الله تعالى.
هل تدري أنَّ الشمس الحارقة التي تطلع علينا كلَّ يوم لولا وجودها، لَمَا وجدت الحياة أصلاً على وجه الأرض؟
وإن الشمس لا تتحرَّك إلا بأمر الله وحده، قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]، بل إن الشمس مأمورة أن تسجد لله - عزَّ وجلَّ - قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18].
والشمس آيةٌ من آيات الله تعالى، ونعمة من نِعَم الله التي لا تُحصَى، ولكن نحن لا نشعر بها، هل تعلمون أنَّ هناك دولاً لا تطلع فيها الشمس أشهُرًا، وبعضها شهرًا أو شهرين، هل تعرفون ما أمنيتهم؟ أمنيتهم أن يروا الشمس، أجمل شيء عندهم هو منظر الشمس!
وبعض الناس من يعترض: "لماذا نحن في هذا الحر؟ انظروا إلى الدولة الأوربيَّة، كيف يعيشون في نعيمٍ لا يعرفون الحر، ليتنا كنا من أهل تلك البلاد"!
ولكن أنا أقول كما قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32].
لا تقل: لماذا لا يوجد عندهم حر، ونحن نحترق من حرارة الجو، لا تقُل: هم في نعيم ونحن في جحيم؛ {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32].
أما ترى أنه بالرغم من الصيف الذي عندنا، وحرارة الجوِّ التي عندنا، لكن انظر إلى تلك البلاد التي تتمنَّى أن تعيش فيها ما يجري عليها من براكين وزلازل، وعواصف وكوارث، بل حتَّى البرد الذي عندهم يحصد الكثير منهم يوميًّا.
بل هل تدري أن العرق الذي يخرج من جسمك بسبب الحر، ويتأفف ويهرب منه الناس؛ لأن فيه رائحة كريهة - لولاه لامتلأ جسم الإنسان بالأمراض؟ كم من سموم يُخرجها هذا العرق! بل الذين لا يعرقون مساكين، وربما يصابون بالأمراض، ونحن لا نشعر!
هل تدري أن هذه الفواكه الصيفيَّة الجميلة التي نتناولُها في الصيف، حتَّى هناك فواكه نتناولها في الشتاء وهي من فصل الصيف، هذه الفواكه لولا حرُّ الصيف لما أكلناها؟
فحرارة الشمس فيها نِعَم، فكم تقتُل من جراثيم وميكروبات وأمراض! وكم تُهلك من أوبئة! وهناك نِعَمٌ وحِكَم كثيرة لا نعرفها إلى اليوم، ولعل الله يصرف عنا به الشرور والأمراض والآلام.
الوقفة الثانية: حرّ الصيف يذكرنا بحرِّ جهنم:
إن كثيرًا من المسلمين تَخفى عليهم هذه الحقيقة التي أخبرنا عنها نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي أنَّ هذا الحر الذي نجده في الصيف إنَّما هو من فيح جهنَّم، أعاذنا الله وإياكم منها، فرسولنا - الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحي يوحى - أخبر أن النار تتنفَّس مرتين في السَّنَة؛ مرة في الشتاء حيث يكون الزَّمهرير والبَرد القارص، ومرة في الصيف حيث تكون الحرارة مرتفعة، فهذا أبو هُريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: «اشْتَكَت النار إلى ربِّها، فقالتْ: يا رب أكلَ بعْضي بعْضًا، فأذن لها بنفسَيْن؛ نفَسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصَّيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشد ما تَجِدون من الزمْهرير»؛ (رواه مسلم).
فالمسلم يتذكر حرَّ النار كلما لفحَتْه رياح الصيف، وألهبت وجهه بحرِّها، ويقول في نفسه: إذا كان هذا من نفَسِ جهنم، فكيف بجهنم نفسها؟! عياذًا بالله منها.
وإذا كنَّا أخي المسلم لا نحتمل نار الدُّنيا وهي جزء من تسعة وستين جزءًا من نار الآخرة، فما الشأن في نار الآخرة؟! في الصحيحين من حديث أبي هريْرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: «نارُكم جزْءٌ من سَبعين جزءًا مِن نار جهنم»، قيل: يا رسول الله إنْ كانت لكافيةً قال: «فُضِّلتْ عليهنَّ بتسْعةٍ وستين جزْءًا، كلهن مِثل حرِّها».
ولذا قال بعض السَّلف: "لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفَيْ عام"؛ يعني أنَّهم ينامون فيها ويرونها بردًا.
فلنقف مع أنفسنا وقفة مُحاسَبة، ونَقُل لها: أيْ نَفْس، أتراك تطيقين الحرَّ في ذلك اليوم؟! قل لي أيُّها الضعيف: كيف تهرب من حرِّ الشمس، وتنسى فيح وحرَّ جهنم، ولا تهرب منها؟! ليتك - أيُّها الغافل - عملت لظِلِّ الجنة كما عملت لداء الهرم والسقم، وليتك هربت من زفير النِّيران كما هربت من شمس النَّهار.
فحقٌّ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتَّقي حرَّ الدنيا: ماذا أعدَّ لحرِّ الآخرة ونارها؟ فيا مَن لا يُطيقون حرارة الجو، يا من لا يتحمَّل الوقوف في الشمس ساعة، كيف أنتم وحرارة جهنم؟!
قال عمر - رضي الله عنه - وهو راوي الحديث: ((أكثِروا ذِكْرَ النار؛ فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وإن مقامِعَها حديد)).
فيا من تؤخِّر الصلاة عن وقتها؛ بسبب الحر، تذكَّر حرَّ جهنم، ويا من لا تزال تتعامل بالرِّبا وأنت تشعر بالحر، تذكَّر حر جهنم، ويا من تَظلِمُ الناسَ وأنت تشعر بالحر، تذكر حر جهنم، ويا من تُبارز الله بالمعاصي وأنت تشعر بالحر، تذكَّر نار جهنم، ويا من تسمح بانتشار الفساد في الأرض، وأنت تشعر بالحر تذكر نار جهنم، ويا مسلمون، يا من تتَّقون من حرِّ الدنيا تذكَّروا حر الآخرة.
الوقفة الثالثة: الصالحون وتذكُّر الآخرة:
الصالحون - رحمهم الله تعالى - كانت قلوبُهم نقيَّة وحية، فكلُّ ما يرونه ويشاهدونه في الدُّنيا يذكِّرهم بالآخرة.
كان الصَّحابة - رضي الله عنهم - إذا شربوا الماء البارد في الصيف بكوا، ولَم تكن عندهم برَّادات ولا مكيِّفات، وسبالت وثلاجات!! هذا ابن عمر - رضي الله عنهما - شرب ماءً باردًا في ذات يومٍ فبكى، وليست البرودة كبرودة الماء اليوم، قيل له: يا ابن عمر، لماذا تبكي؟ قال: تذكَّرتُ أمنية أهل النار، وما هي أمنية أهل النار يا ترى؟ أغلى أمنية عندهم أتدري ما هي؟ أنا أدعوك أخي المسلم إلى أن تسمع إلى أمنية أهل النار جيدًا، وتتأمَّل فيها؛ حتَّى لا نجزع من حرِّ الصيف، وكلما شربت ماءً باردًا تذكَّرْ أمنية أهل النار.
واسمع إلى أمنية أهل النار حينما يشتهون الماء، ويقولون لأهل الجنة كما يحكي الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}، فيقول لهم أهل الجنة: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50].
هل تدري ماذا يسأل الله عبده يوم القيامة؟ عن نعمة الماء البارد، الماء إحدى النِّعم التي ستُسأل عنها يوم القيامة، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: «إن أوَّلَ ما يُسأل عنه يوم القيامة -يَعني: العبْدَ من النعيم- أنْ يُقال له: ألَم نُصِحَّ لك جسمَك، ونُرْويك من الماء البارد»؛ (رواه الترمذي).. الماء البارد، فكيف بالمثلَّجات والعصائر ما لذا وما طاب، والواحد منَّا يتأفَّف من الحر؟!
إن بعض السلف كان إذا دخل الحمام في الصيف، وشعر بحرِّ المكان تذكَّر النار، وتذكر يوم تُطبق النار على من فيها وتوصد عليهم، ويقال لهم: خلودٌ فلا موت، فإذا خرجوا من الحمام أحدث ذلك التذكُّرُ لهم عبادةً!
وإن بعض الصالحين صبَّ على رأسه ماء من الحمام، فوجده شديدَ الحر، فبكى، وقال: ذكَرْتُ قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 29]، أرأيتُم كيف كان كل شيء يذكِّرهم بالآخرة وبالنار؟! فما أشدَّ تذكُّرَهم! وما أعظم اعتبارَهم!!
وانظر إلى حياة الصالحين - رضي الله عنهم - في الصيف رغم انعدام وسائل التكييف والرَّاحة - التي ننعم بها في زماننا والحمد لله - فإنَّ ذلك لم يقطعهم عن طاعةٍ من الطاعات، مهما كانت مشقَّتُها على النَّفس، وكانت من أعظم العبادات عندهم الصِّيام.
واسمع إلى سيدنا أبي الدرداء - رضي الله عنه - وهو يقول: "صوموا يومًا شديدًا حرُّه؛ لِحَرِّ يوم النشور، وصلُّوا ركعتين في ظلمة الليل؛ لظلمة القبور"، ووصَّى عمر - رضي الله عنه - عند موته ابنه عبدَالله، فقال له: "عليك بخصال الإيمان"، وسَمَّى أوَّلها: "الصوم في شدة الحر في الصيف"، وهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - خرج في سفر ومعه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمرَّ بِهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إنِّي صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حرُّه، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وأنت صائم؟! فقال: "أُبادر أيامي هذه الخالية".
وهذا معاذ بن جبل وغيره من السلف - رضي الله عنهم - يتأسَّف عند موته على...
أتدري على ماذا؟ أتظنه أسف على قصر لم يشيِّدْه؟! أم تراه أسف على صفقة تجارية لم يربحها؟! أم على امرأة حسناء لم ينكحها؟! كلاَّ، لا هذا ولا ذاك.. إذًا ماذا؟
تعال معي لنستمع سويًّا إليه: لما مرض معاذ بن جبل - رضي الله عنه - مَرَضَ وفاتِه، قال في الليلة التي تُوفِّي فيها: "أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إنِّي كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنِّي لم أكن أحبُّ البقاء في الدنيا؛ لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومُكابدة الليل، ومُزاحَمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذِّكر".
هنيئًا لك - يا معاذ - أن يكون هذا أسفَك على الدُّنيا، وهذا حُزنَك على فراقها، فأين المسلمون من هذه الهمة العالية في الطاعة؟!
مِن المسلمين اليوم مَن يعجز عن مُجاهدة نفسه على القيام ببعض الطاعات، وهو منطرح على فراشه الوثير تحت المكيف، آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده من ألوان الطعام الشيء الكثير، ومع ذلك يتثاقل عن الصلاة جماعةً مع المسلمين في المساجد، أو يتكاسل عن القيام بحقوق الوالدين، وصلة الأرحام، وغيرها من أبواب الخير.
فيا من تقرأ القرآن وأنت تشعر بالحرِّ، ويا من تذهب إلى المسجد لأداء الصلاة المكتوبة في الحر، ويا من تمشي في حضور الجنائز في الحرِّ، ويا من تؤدِّي وظيفتك في الحر، ويا من تمشي في قضاء حاجة أخيك لله تعالى، ويا من تُساعد الآخرين في الحر، ويا من تعمل وأنت في الحر... وأنتم تشعرون بحرارة الشمس - تذكَّروا حرَّ جهنَّم، وتذكروا أن الصالحين مِن هذه الأمة رغم انعدام وسائل التكييف والراحة - التي ننعم بها في زماننا، إلا أن ذلك لَم يقطعهم عن طاعة من الطاعات، بل أكثَروا من العمل والطاعة، فاجعلوا عملكم الذي تقومون به لله؛ من أجل أن تنالوا مغفرة الله تعالى.
فهنيئًا لكلِّ مَن يقضي شهور الصيف في طاعة الله تعالى، وهنيئًا لمن يستغلُّ حرارة الصيف في التقرب إلى الله - عزَّ وجلَّ - وهنيئًا لكل من لم تمنعه حرارة الصيف عن تقديم عمل صالح ينال به الأجر والثواب.
فيا أخي الكريم: لنغتَنِم صيفنا بالطَّاعات، ولْنَستزِد فيه من الحسنات؛ فالأجر يَعظُم مع المشقة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنَّه كان غفَّارًا.
______________________________ ______________________________
الكاتب:عبدالله عبدالرزاق الأنباري