تفسير: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)
الشيخ محمد حامد الفقي
تفسير قوله تعالى
﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
قول الله جل ثناؤه ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 97-98].
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "سمع عبدالله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني إلى المدينة - وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم أخبرني بهن جبريل آنفاً. فقال: جبريل؟ قال نعم. قال ذك عدو اليهود من الملائكة. فقرأ هذه الآية: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 97]، الآية، وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود، فقال لهم رسول الله: أي رجل عبدالله بن سلام فيكم؟ قالوا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا أعاذه الله من ذلك. فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا: هو شرنا وابن شرنا. وانتقصوه. فقال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله" وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: أقبلت يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال ﴿ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 28]، قال هاتوا. قالوا: فأخبرنا علامة النبي. قال تنام عيناه ولا ينام. قالوا أخبرنا كيف تؤنت المرأة وكيف تذكر؟ قال يلتقي الماءان: فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت. وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت. قالوا أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا - قال أحمد قال بعضهم: يعني الإبل - فحرم لحومها. قالوا صدقت - إلى أن قال - قالوا: إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها: إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل. قالوا: جبريل؟ ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا. لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله تعالى ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 97]"، وكذلك رواه الترمذي والنسائي.
وروى أبن جرير عن عمر أنه قال: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن، ومن القرآن كيف يصدق التوراة. فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب؛ ما من أصحاب محمد أحمد أحب إلينا منك. قلت ولم ذلك؟ قالوا لأنك تغشانا وتأتينا. فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق القرآن. قالوا: ومر رسول الله، فقالوا يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال فقلت لهم عند ذاك: نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه، وما استودعكم من كتابه: هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال فسكتوا. فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه، قالوا فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم إنه رسول الله. قلت ويحكم، إذاًَ هلكتم، قالوا إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا إن لنا عدواً من الملائكة، وسلماً من الملائكة، وأنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل؛ وسلمنا ميكائيل، قالوا إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة، والإعسار والتشديد والعذاب، ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف - الحديث".
وهذه واحدة أخرى من مخازي الأمة الغضبية وفضائحهم، تبرز للناس صورة واضحة لتعظيم ما سجل الله عليهم من الشقاء والبعد عن رحمته ورضوانه؛ وتكشف عن خبث نفوسهم؛ وفساد ضمائرهم وتحجر قلوبهم، وبعضهم للحق وأهله؛ ومقتهم لكل داع إليه، وعدائهم للهدى ولكل متكلم به، وشدة كراهيتهم لله سبحانه ولكل ما يوحي به إلى أنبيائه من الدين والهدى ليخرجوا الناس به من الظلمات إلى النور، وتدل على عظيم حرص تلك الأمة الغضبية على اتباع أهوائهم وإرضاء شهوات نفوسهم الخبيثة أشد الخبث بما تغلغل في طواياها، وامتزج بها من بطر الحق والحسد لأهله على ما آتاهم الله من فضله؛ وغمطهم بمحاولة إطفاء نوره، وتشويه حققته، وإلباسه ثوب الباطل، وانتفاخ تلك النفوس بورم الكبر عن جهل عميق؛ وغرور شنيع بما ورثه لهم أحبارهم وحاخاميهم من آراء فاسدة، ومقاييس في الدين بأهواء متناقضة؛ وأقوال على الله بالكذب المفترى من وحي الشيطان، غرهم كل ذلك حتى زعموا أنفسهم به علماء ليسوا بحاجة إلى علم جديد، ولو كان من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب أشرف خلق الله، وأصدق عباد الله، وسيد رسل الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم في الوقت نفسه يقبلوا من حاخاميهم كل جديد ولو كان تحريفا للتوراة عن موضعها، وإبطالاً لأحكامها.
ومن عظيم غرورهم، وشديد تحكم الهوى على نفوسهم الخبيثة، وتغلغل الفساد في ضمائرهم: أنهم يكرهون جبريل، وإنه عدوهم من دون الملائكة لأنه ينزل بالوحي والعلم من عند الله على من يختار الله من عباده، ويصطفيه لرسالته، فيكون ذلك الرسول المختار بذلك الوحي عالماً بعلم ليس عند اليهود، ويعلم ذلك الرسول أتباعه ذلك العلم فيكونوا هم كذلك علماء بما ليس عند اليهود، ويكون في الناس من يقر له الناس بالعلم سوى اليهود، فعندئذ يأكل الحسد قلوب أولئك اليهود، الذين يحتكرون العلم لأنفسهم، ويزعمونه وقفاً عليهم لا يجاوزهم إلى غيرهم، بل ويزعمون أن الله محجور عليه أن يعلم غيرهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا.
وهم في الواقع ليسوا على شيء من العلم، إنما هي الدعوى الكاذبة، والغرور الخادع؛ وحب أن يُحمدوا بما ليس عندهم؛ ولا من صفاتهم، فهم يعرفون أن صفة العلم التي يدعونها ثوب زور لبسوه بالباطل، ومن كان حاله كذلك فهو أشد الناس خوفاً من العلماء الحقيقيين؛ وأشد الناس فزعاً أن يكون لهؤلاء العلماء الحقيقيين وجود لأ،هم يفضحونهم، ويكشفون عن جهلهم، ويخلعون عنهم ثوب الزور، ويبدونهم للناس على حقيقتهم، من الجهل العميق والغرور الشنيع، بل ويظهرونهم للناس في ثوبهم الحقيقي من كرههم للعلم وأهله، ومقتهم للحق وكل قائم به، وبغضهم للدين ولكل داع إليه. ومن هو الذي يفيض الله بسببه هذا العلم الحقيقي ويرسل نوره على الأرض. وينزل غيثه من السماء؟ ليس إلا جبريل الروح الأمين والرسول الكريم ذي القوة والمكانة عند ذي العرش، الذي يطيعه كل ملائكة السماء بما جعل الله له من الرياسة عليهم. فاليهود الذين خبثت نفوسهم باستمرائها للفسوق والعصيان والتمرد على الله، والذين فسدت ضمائرهم باستبعادها للهوى والشهوات حتى غلب سلطانها عليها دون كل سلطان. وقست قلوبهم بكثرة ما صب فيها من حثالات الأفكار، وزبالات الآراء، وقاذورات تقليد الأجداد والآباء، والانقياد للرؤساء والأحبار على وجوههم بأشد ما يكون على الصمم والبكم والعماء.
أولئك اليهود لكل هذا ولغيره كثير كرهوا جبريل وعادوه، ولم تقتصر عداوتهم على جبريل، بل تعدته بالطبع إلى الأنبياء الذين لم تكن وظيفة جبريل في السفارة إلا لهم، ولم يكن يتنزل بأمر ربه إلا من أجلهم. فكان لأولئك الأنبياء من عداوة اليهود وافر حظ وأعظم نصيب، انتهى إلى قتلهم وراقة دمائهم. ولو أنهم وصلت أيديهم الخبيثة إلى جبريل لحاولوا قتله أيضاً، فبعداً لهم وسحقاً. ألبسهم الله ثوب الخزي والمقت والغضب إلى يوم يبعثون.
ولقد أعمى الخبث ولؤم النفوس وفساد الضمائر بصائر أمة الغضب أن تفكر تفكيراً سليماً، وتنظر إلى الأشياء على وضعها الصحيح. فلو أنهم رزقوا ذلك الفكر والنظر لعالجوا نفوسهم من ذلك العداء لجبريل، ولمن ينزل بالوحي من عند الله عليهم. لأن جبريل لم يكن ينزل من قبل نفسه. كما أخبر الله على لسانه في سورة مريم ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ﴾ [مريم: 64]، وإن الأنباء لم تكن تدعو الناس غلى علم ودين اخترعوه من عند أنفسهم كما يصنع أحبار الأمة الغضبية، وإنما جبريل مبلغ للأنبياء رسالة الله، والأنبياء مبلغون للناس رسالات ربهم، لا يقدر واحد من الأنبياء ولا جبريل أن يزيد من عند نفسه على ما في رسالة الله كلمة ولا أن ينقص منها كلمة. ولو أن واحداً منهم فعل ذلك لحل به من العقوبة ما توعد الله إذ يقول ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44-47].
﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 97]، يعني فما على جبريل من شيء ولا دخل له في ذلك العلم والدين الذي علمكه الله بشيء، وليس لجبريل في ذلك إلا أنه نزله على قلبك بإذن سالله وبأمره. وشأن جبريل في ذلك شأن ميكائيل في تنفيذه لما يأمره الله به من إنزال المطر الذي به تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام، وما يتمتعون به من فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان، فميكائيل لن ينزل من السماء بغيث ولا قطرة ولا شيء من الرحمة إلا بإذن ربه وأمره، فليس له فضل في شيء من ذلك، وإنما هو مسخر بأمر ربه. وكذلك ملك الموت شأنه في قبض الأرواح كشأن ميكائيل، وكذلك ملائكة الجبال والريح وغيرها من المدبرات أمراً هي مسخرة بأمر ربها فيما جعلها الله موظفة له من الشئون في الأرض والسماء. فشأن جبريل في نزول الوحي شأن غيره من أولئك الملائكة؛ ولا يدفع ذلك ولا يرفعه قول أمة الغضب أن جبريل ينزل بالحروب وسفك الدماء؛ فإن ذلك إنما هو نتيجة حتمية للكفر بالله ورسله والصد عن طريق هدايته؛ ولا صلاح للناس إلا بذلك؛ كما أن ملك الموت يقبض أرواح من فرغت أعمارهم؛ وفي ذلك صلاح العالم؛ وهكذا كل ملك ينفذ أمر الله الذي به صلاح الناس.
فالعداء والكره لجبريل أو للأنبياء أو لورثتهم من كل عالم قائم بالقسط، أو للكتب التي ينزل بها جبريل على الأنبياء، ليس في الحقيقة والواقع إلا عداء لله سبحانه، وكرهاً له ولما يحبه لعباده من الهدى والرحمة؛ وذلك بلا شك أعظم الكفر وأشده جرأة على الله سبحانه. لذلك يقول الله ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 98].
فاليهود يعلمون هذه الحقائق من وظيفة جبريل، ووظيفة الملائكة، ويعلمون هذه الحقائق من وظيفة الأنبياء ووظيفة ورثتهم الذين يقومون بالقسط في الناس، ولكنهم يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم المعاذير والحيل خشية أن يستيقظ ضمير لحظة ربما يتنبه إلى تأنيبهم أو توبيخهم على ذلك العداء والكره لمن لا يستحقون إلا خالص المحبة والإجلال، لما يسدي الله إلى الناس من هدى ورحمة على أيديهم وألسنتهم. ولكن أين لليهود أن يتحرك ضميرهم الذي مات وطال عليه الأمد في الموت، وتراكمت عليه جلاميد التقليد الأعمى وتحكم الشهوات وعبادة المادة واتخاذ الهوى إلهاً من دون الله؟!
وأكثر ما حمل اليهود على أن يلجوا في تلك الخبائث من الخلال، ويتوغلوا في تلك العداوة لله ولرسله ولكل قائم بالقسط والحق بين الناس.. أكثر ما حملهم على ذلك خلق الحسد، الذي كرهوا به نعمة الله على كل أحد، وبطروا به كل حق، وحملهم على كل خبيثة من الأخلاق، وجرهم إلى كل ذميم من الصفات، ومكن لذلك الحسد في نفوسهم أنهم لا يرجون لله وقارا؛ ولا يخشونه كخشية الناس، بل خشيتهم للناس أشد من خشية الله؛ ورجاؤهم للناس أعظم من رجائهم لله، وحرصهم على ثناء الناس أكبر من حرصهم على مثوبة الله ومرضاته.
وبهذه الخبائث التي استولى الشيطان بها على قلوب اليهود ونفوسهم وأعمالهم؛ وجعلهم بها أعداء لله ولرسله وكتبه وملائكته ولكل قائم بالقسط لله. استولى الشيطان ويستولي على كثير ممن غلبت عليهم تلك الأخلاق اليهودية. فترى الواحد منهم شديد الحرص على رياسته ووجاهته في الدنيا باقتناء الدور والعقار وجمع المال وغند تلاميذه ومريديه، فيحاول أن يحفظ هذه الرياسة والوجاهة بكل ثمن، ويضع حولها في قلوب تلاميذه ومريديه كل ما استطاع من أسلاك شائكة؛ يمنع أي حق أو علم أو هدى أن يصل إليها. فتارة يقول بلسانه وفي كتبه وعلى لسان من يتخذهم عرفاء ووكلاء له: لا يكون المريد صادقاً إلا إذا اعتقد أن شيخه جاسوس قلبه، يدخل فيه ويخرج منه من حيث لا يشعر. ويريد بذلك أن يوهمهم أنه يعلم ذات الصدور وما تكن القلوب، ويحذرهم أن يميلوا إلى شيخ آخر، إلا كان عليهم الوبال والنكال من الشيخ الذي يقول لهم تارة أخرى: لن تفتح أبواب السماء لذكر المريد إلا إذا استحضر شيخه في قلبه وجعله بينه وبين الله. ويقول لهم تارة أخرى لن يفلح المريد إلا إذا كان بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل؛ يعني لا يفكر إلا بفكر الشيخ ولا يرى إلا بعيني الشيخ ولا يعقل إلا بعقله. وبالجملة أن تتلاشي فيه كل ميزة إنسانية ليكون كشر الجواب الصم البكم الذين لا يعقلون. ثم يبالغ في إبراز رياسته وإظهارها تفاخراً وتكاثراً، فيخترع له ولمريديه زياً خاصاً بلباس خاص، يلصقه بالدين؛ ويدعي أنه زي سيد المرسلين، ويذهب في ترويجه كل مذهب، ويركب إليه كل سهل وصعب، حتى يوحي إليه الشيطان: أن لا بأس أن يخترع لترويج ذلك أحاديث يفتريها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأساليب مختلفة، فمرة يقول: ركعتان بهذا الزي خير من سبعين ركعة بغيره" ومرة يقول "إن الشيطان لا يكون بهذا الزي" وأخرى يقول "هذا هو الفرق بين المسلم والكافر". ويبالغ في الإكثار من تلك الأحاديث المفتراة؛ ويكثر الدروس والخطب في مدح هذا الزي واللباس ومدح أهله، وأنهم أتابع رسول الله وأهل سنته وأن غيرهم هم الضالون المضلون المبتدعون كلاب النار، لا يقبل منهم صرفاًَ ولا عدلا؛ ويحذر أتباعه من مخالطتهم ومؤاكلتهم؛ فضلاً عن الصلاة وراءهم أو استماع دروسهم وخطبهم؛ وفضلاً عن موالاتهم واتخاذهم إخوانا. فإذا بلغه أحدجاً حام حول مريديه وتلاميذه بدعوة حقة يحاول أن ينقذهم من براثنه ويرشدهم إلى صراط الله المستقيم والهدى الحقيقي لسيد المرسلين. قام عليه قومة الليث الجرب؛ وأنشب فيه مخالب طعنه وتشنيعه، ورماه بكل قذيفة من زيغ في العقيدة، إلى كفر وضلال؛ وأخذ يصنف الألقاب المستبشعة؛ والصفات القبيحة يطلقها عليه؛ لينفر تلاميذه منه، ويبعدهم عن الإصغاء إلى كلامه. فمرة يقول: إنه وهابي يحرم على الناس ما ورثوه من مئات السنين عن آبائهم وأجدادهم وشيوخهم؛ ويمنعهم من عمل الموالد، ويسميها أعياداً شركية، ويمنع الناس من الاستغاثة بالأولياء والصالحين، وفي الأحزاب والأوراد كثير من هذه الاستغاثات والدعاء بهم ولهم. ويمنع من التبرك بقبول الأولياء والصالحين وآثارهم. وقد سمعنا من أفواه الجدات والعمات وقواعد البيوت "إذا ضاقت عليكم الأمور فعليكم بأهلي القبور" ومرة يقول: إنه كافر زنديق لأنه يحارب الطرق الصوفية كلها ويدعو الناس إلى الرجوع إلى ما كان عليه المسلمون في الصدر الأول، وبذلك يتهم كل الأمة بأنها على غير هدى وأن أولئك الأقطاب والصالحين لم يكونوا على هدى. ومرة يقول: إنه مارق فاحذره لأنه يقول في صفات الله ما لم يقل شيوخنا مؤلفونا ومتبعونا من أن الواجب تأويلها وردها إلى المجاز، ويدعي أن التأويل كذب على الله ورسوله وعلى الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين، ويزعم أنها على ما قال الله ورسوله وعلى ما فهم الأولون كما ينبغي لله ويليق به سبحانه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، وبذلك يزعم أنه أعلم بالقرآن والسنة من مشايخنا ومؤلفينا، وهذا ضلال مبين، فاحذروه.
وهكذا تجد ورثة الأنبياء القائمين لله بالقسط على ما نزل به جبريل على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين في بلاء أشد البلاء من ورثة أولئك اليهود الذين استولى عليهم الشيطان بمثل ما استولى على اليهود من الحسد والحقد وحب الرياسة والعلو في الأرض؛ والوجاهة بكثرة المريدين والأتباع، والله المستعان. وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. فصبراً يا دعاة الحق والقائمين بين الناس بالقسط، والهادين الناس يهدى القرآن والسنة. صبراً على ما ينالكم من الأذى والتشنيع عليكم والتشويه لحقكم بإلباسه ثوب الباطل، ونبزكم بالألقاب تنفيراً للناس عنكم وعن دعوتكم الحق، فها أنتم تسمعون ربكم أصدق القائلين سبحانه؛ يخبركم هو في نبيه صلى الله عليه وسلم أن سلفهم شنعوا على جبريل وعلى أنبياء الله ورسله، وعادوهم بالحسد والبغي، فلكم بهم وبإمامكم الأعظم صلى الله عليه وسلم خير قدوة؛ ولكم فيهم وفي متبوعكم الأكرم صلى الله عليه وسلم أحسن أسوة؛ والعاقبة للمتقين: وليكن شعاركم قول الله لحبيبه الأكرم ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34].
وقوله سبحانه في قوله على لسان شعيب عليه السلام ﴿ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ [لأعراف: 89]. ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [ابراهيم: 12] ﴾، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. وصلى الله على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
مجلة الهدي النبوي: المجلد الخامس، العدد 14-15، شعبان سنة 1360هـ