غياث المذنبين بتوبة أرحم الراحمين
الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة المؤمنون:
جئتكم اليوم ببشارةٍ كريمة بشارةٍ عظيمةٍ جليلة، ينبغي أن يفرَح بها المؤمن، وأن تُسَرَّ بها نفسه؛ ذلك أن فيها العقبى الطيبة والخير الوفير الذي يَناله العبد من ربه جل وعلا، هذه البشرى جاءت مُضمَّنةً في آيةٍ كريمة من سورة التوبة، وذلك قول ربنا جل وعلا مخبرًا عما وقع من بعض عباده الذين كانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهم من المؤمنين، لكن وقع منهم أمرٌ يقع منهم ومن غيرهم، وسوف يقع من أهل الإسلام إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها، هذا العمل الذي يقع مما فيه إضعاف للإيمان، ومخالفة لهذه المنحة من الملك الديَّان، ولا يخلو أحدٌ منا من وقوع الزلل والخطأ الذي يلازم الإنسان؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: ((كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون))؛ رواه الإمام أحمد بسندٍ جيد.
يقول ربنا جل وعلا في كتابه الكريم في سورة التوبة: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102].
ومن منا أيها الأخوة المؤمنون لا يَخلط عمله الصالح بآخر سيئ؛ قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى يقول الله تعالى ذكره: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [التوبة: 101، 102]، يقول: أقرُّوا بذنوبهم.
خلطوا عملًا صالحًا؛ يعني: جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيئ: اعترافهم بذنوبهم وتوبتهم منها، والآخر السيئ: هو تخلُّفهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج غازيًا، وترْكهم الجهاد مع المسلمين، ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية الكريمة ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 102].
يقول ابن كثير: لَما بيَّن الله تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة - يعني غزوة تبوك - رغبةً عنها، وتكذيبًا وشكًّا، شرَع جل وعلا في بيان حال المذنبين الذين تأخَّروا عن الجهاد كسلاً وميلًا إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾؛ أي: أقرُّوا بها، واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم، ولهم أعمال أُخَر صالحة، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغُفرانه.
قال ابن كثير: وهذه الآية وإن كانت نزلت في أُناسٍ معينين، إلا أنها عامةٌ في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوثين، وقد قال مجاهدٌ رحمه الله: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه.
أقول: غير أن جمهور المفسرين على أنها قد نزلت في هؤلاء الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، قال ابن كثير: وقال ابن عباس وآخرون: ﴿ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ نزلت في أبي لبابة وجماعةٍ من أصحابه تخلَّفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسةٌ معه، وقيل: سبعةٌ معه، وقيل: وتسعة معه، فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلَفوا ألا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أنزل الله هذه الآية الكريمة: ﴿ وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾، أطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح، ذكَر بسنده عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((آتاني الليلة آتيان فابتعثاني، فانتهيا بي إلى مدينةٍ مبنيةٍ بذهبٍ، فانتهيا بي إلى مدينةٍ مبنيةٍ بلَبِن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر كأقبح ما أنت راءٍ، قال لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال لي: هذه جنة عدن وهذا منزلك، قال: أما القوم الذين كانوا شطرٌ منهم حسنٌ وشطر منهم قبيحٌ، فإنهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فتجاوَز الله عنهم)).
وهذا الحديث أورده ابن كثير ها هنا مختصرًا أو ساقه البخاري ها هنا مختصرًا في كتاب التفسير من جامعه الصحيح، وقد جاء في مواضع أخرى من الصحيح بروايةٍ مطولة، حكى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما شاهد في تلك الليلة حينما ذهب مع الملكين، فرأى الجنة ورأى أقوامًا من أمته ممن يُعذَّبون أو يُنعَّمون، والشاهد هنا هؤلاء القوم الذين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنك إذا رأيتهم، شطر منهم حسن، وشطر منهم قبيح، كأقبح ما أنت راءٍ))، هؤلاء كما جاء في تفسيرهم قال له الملكان: إنهم الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
أيها الأخوة الكرام، إن هذه الآية الكريمة وكما قال ابن كثير رحمه الله ومن قبله قال ابن عباس وأبو عثمان النهدي وغيرهما: "وهي إن كانت قد نزلت في الأعراب بخاصةٍ، إلا أنها للأمة إلى يوم القيامة؛ ولذا كما روى ابن جرير عن أبي عثمان النهدي أن هذه الآية الكريمة ما في القرآن آيةٌ أرجى لهذه الأمة منها".
إن الرجاء فيها أن الله جل وعلا أخبر عن هؤلاء أنهم خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، ومَن منَّا لا يكون منه ذلك: العمل الصالح، والعمل السيئ، والله قد وعد أن تكون منه المغفرة وقد قال جل وعلا في تمام الآية: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾، والعلماء يقولون: إن كلمة عسى من الله جل وعلا في القرآن الكريم، إنها متحققة الوقوع، إنها ليست على سبيل الترجي كما قد يكون في ظاهر اللغة، ولكنها في القرآن الكريم محققة الوقوع؛ كما قال ابن عباس، وقاله غيره في جمهرة من العلماء - علماء التفسير واللغة - كما ذكر ذلك الفراء والنحاس، وذكره ابن فارس والفيروزآبادي وغيرهم، وتأويل هذا أن كلمة عسى صادرة عن رب كريم جل وعلا، والله سبحانه أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فإذا أطمع عباده في هذا الأمر العظيم، فإن الله جل وعلا لا يُخلفه، ومن هنا كانت هذه الآية أرجى آيةٍ في كتاب الله جل وعلا.
والمسلم حينما يتأمل هذه الآية الكريمة ويتدبَّرها، فإنه ينظر إليها من أكثر من جهةٍ ومن زاوية، فمن جهةٍ أنه يحمَد هذا الرب الكريم على إنعامه وتفضُّله وامتنانه، فلن يؤاخذنا ربنا جل وعلا بذنوبنا وخطايانا؛ ما ظهر منها، أو ما أسررناه؛ ولذا نبَّه الله سبحانه إلى أن يستحضر العباد هذه المنحة في قوله جل وعلا: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45].
فالله جل وعلا يعفو ويتجاوز، ويستر ويغفر، ومِنَح الله جل وعلا تُعَد ولكنها لا تُحصى، ومن جهةٍ أخرى ينظر العبد إلى هذه الآية الكريمة بأنه ينبغي له أن يكون مكثرًا من الحسنات؛ لأنها ولا بد - مع هذا الوعد الكريم من الله جل وعلا - أن تكون طاغية وماحية للسيئات.
﴿ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾: وهذا يوضِّحه الوصية النبوية في موضعٍ آخر، حينما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((وأتبع السيئة الحسنة تَمحها))، نعم أتبع السيئة الحسنة تمحها؛ لأن السيئة لا يُجزى بها العبد إلا جزاءً فرديًّا، أو يغفر الله ويعفو، أما الحسنة فإنه يُجزى عليها العبد جزاءً مضاعفًا.
إن من نِعَم الله جل وعلا على عباده المؤمنين أن الحسنات مضاعفات، وإن من كرم ربنا سبحانه أن العمل الصالح الذي يأتي به العبد، يُجزى عليه جزاءً مضاعفًا، ثم أيضًا من جهةٍ أخرى، تدل هذه الآية الكريمة على فضل التوبة وعِظَمها، فإن هؤلاء ذكرهم الله جل وعلا بأنهم اعترفوا بذنوبهم، وهذا الاعتراف يقتضي أمورًا من جملتها عدم الإصرار على الذنب والخطيئة؛ ولذا قال الله جل وعلا في موضع آخر: ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
يعلمون أن ما أقدموا عليه خطيئة وذنبٌ عظيم، ويعلمون أن الله جل وعلا لا تضرُّه السيئة، لكنه يحب من عباده التوبة؛ ولذا عظَّم مقامات التائبين، وهذا يوجِب على المؤمن ألا يستخفَّ بالسيئات والخطايا؛ لأن الاستخفاف بها يَقتضي الاستخفاف بنظر الرب جل وعلا وإحاطته، كما أن ذلك يؤدي إلى استحلالها وإشهارها، وعدم الاعتداد بنظر الناس، ولا الحياء من الخالق جل وعلا، لكن المؤمن الذي صدَق مع ربه وهو مبتلًى بالوقوع في السيئات، إذا وقعت منه السيئة يعلم أنها خطيئة، ولا يُبرر لنفسه استحلالها، ولا يحمل الناس على أن هذا أمر سهل أو مباح؛ لأن مما قد يبتلى به بعض الناس أنه إذا وقَع في الخطيئة، يجعل لها من المبررات، ويتلمس لها ما يُبررها وأنها حلالٌ وغير ذلك، وهذا من أعظم ما يُبتلى به الإنسان، ومن أعظم ما يبتلى به الإنسان أيضًا أن يَستسهل الخطيئة؛ لينتقل بعد ذلك إلى استحلالها، ولا ريب أن استحلال الذنب شيءٌ عظيم؛ لأن الله جل وعلا يغفر للعبد المذنب؛ لأن هذه طبيعته حينما يقع بالخطيئة إذا أقبل عليه تائبًا، لكن استحلاله ما حرَّم الله جل وعلا، فهذا ذنبٌ عظيم، وهو من صفات اليهود والمنافقين؛ ولذا أخبر الله عنهم في كتابه الكريم: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ [الأعراف: 28].
نعوذ بالله من ذلك، نعوذ بالله من ذلك، نعوذ بالله من ذلك.
إن المؤمن حَرِيٌّ به، وهذه صفته التي خُلِق عليها، وهو الضَّعف: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، لا يتماسك في بعض الأحيان أمام هوى النفس، فيقع في الخطيئة والعصيان، ينبغي له أن يَلوذ بجَناب الرب جل وعلا؛ بسرعة التوبة، والمبادرة إلى الاغتسال بماء الاستغفار؛ فالله يقبله، ولا يخفى عليكم أيها الأخوة المؤمنون أن الله جل وعلا قد أخبر في مواضع من كتابه، وتمدَّح سبحانه بأنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، بل إن الله عظَّم شأن التائبين، وعظَّم مقاماتهم، ومن أعظم ذلك أن الله قال عنهم: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
أيها الأخوة الكرام، إن هذه الآية لا شك أنها بشارة عظيمة للمؤمن، تحمله على أن يُكثر من الحسنات، وألا يقنط من رحمة رب البريات، وأن يُقبل على ربه بالحسنات، فإنها ماحيةٌ بإذن الله للسيئات، وألا يتسلط عليه الشيطان بأن يُقنطه من رحمة ربه، ويُوقِع في قلبه اليأس من غفرانه؛ فإن الشيطان من أعظم ما يظفر به على العبد أن يُقنِّطه من رحمة ربه، كما أن من أسوأ الناس من قنَّط الناس من رحمة ربهم.
إن المأمور به أن يكون المؤمن مرغبًا في إقبال الناس على ربهم، محببًا للناس في ربهم جل وعلا، وفي التوبة إليه، وبيان فضائل الإنابة والاستغفار، والعودة إلى الرب جل وعلا، فلا ريب أن هذه الآية: ﴿ وآخرون اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا ﴾ أنها أرجى آية في كتاب الله جل وعلا؛ كما قال أبو عثمان النهدي، وكما قال غيره من أئمة العلماء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدْي النبي الأمين، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
أيها الأخوة الكرام، إن المتأمل في نصوص القرآن والسنة، يَلحَظ ما تضمَّنته من ترغيب الناس في الإقبال على ربهم بالأعمال الصالحات، وحثِّهم على الانكفاف عن السيئات، ومن جُملة ما يوضِّح عِظَم هذا الترغيب أن الآيات والأحاديث جاءت موضِّحة أن المؤمن لا يدري بأي عمل صالح يُدخله ربُّه الجنة.
نعم إن الإيمان هو المفتاح لدخول الجنة، إن الشهادتين هما المفتاح لدخول الجنة، ولكن قد يكون للعبد من بعد ذلك ما يُسرِّع به إلى بلوغ المنازل العالية، ومن تأمَّل نصوص الوحيين يجد وعودًا عظيمة على أعمالٍ ربما كانت يسيرة، لكنها بلغت بالعبد عند الله المنازل العالية، ولهذا أمثلة كثيرة جدًّا، وعلى سبيل المثال في ذلك: ما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((رأيت رجلاً من أُمتي يتقلب في الجنة يتنقل في أنحائها بغُصن شجرة أزاحها عن طريق المسلمين)).
بغُصن شجرة أزاحه عن طريق الناس، فتأمَّل يا عبد الله كيف أن عملاً يسيرًا بلَّغ هذا العبد هذه المنازل العالية؛ فلا ينبغي للمؤمن أن يَستصغر أي عمل صالح، وهو في هذه الدنيا في تجارةٍ مع الله، ينبغي أن يستكثر ولا يدري أي سِلَع هذه الدنيا يكون مُبلغًا له المنازلَ العالية من الأعمال الصالحة.
ومما يوضِّح مما ينبغي على العبد من محاذرة شُؤم المعاصي، وعدم الاستخفاف بها - أنه ربما وقع في خطيئةٍ ظن أنها يسيرة، لكنها كانت عند الله عظيمة، ومن أعظم ما يُعظِّمها ويُقبحها عند الله جل وعلا، استسهال الإنسان لها، واطمئنان قلبه بها، وعدم محاذرته من مَغبَّتها؛ ولذا كان الواجب على المؤمن أن يكون ملازمًا للتوبة والاستغفار؛ لأنها علامةٌ على الندم، وهذا مقتضى قَبول الله جل وعلا لتوبة التائبين؛ ولذا نص العلماء رحمهم الله على أن التوبة تكون مقبولة عند الله جل وعلا بإذنه سبحانه، إذا تضمنت أركانًا أساسية هي أولًا: إقلاعه عن الذنب والخطيئة، ولا يقلع عن الذنب والخطيئة المؤمن إلا إذا استشعر أنها ذنبٌ وإثم وخطيئة، ولم يستحلَّها، وأمرٌ ثان، وهو أن يندم على ما مضى، فلا يكون ما مضى من خطيئته محلاًّ لمفاخرته أو محلاًّ لاستسهال الأمر عنده، بل إنه يعلم أن ما تقدَّم منه ذنبٌ وخطيئةٌ، فهو مُسْتَحْيٍ من ربه، نادمٌ على ما مضى من عصيانه، وأمرٌ ثالث، وهو أن يعزم ألا يعود إلى هذا الذنب والخطيئة، وهو يعلم أنه سوء أدبٍ مع المنعم المتفضل، فهو عازمٌ ألا يرجع ولا يعود إلى هذا الذنب والخطيئة مهما كان الأمر، وإذا قُدِّر أن يعود، فهذه طبيعة الإنسان، لكن الواجب عليه أنه كلما أذنب أن يُبادر إلى التوبة، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أذنب عبدٌ، فقال: ربِّ أذنبت فاغفر لي، فقال الله لملائكته: أذنب عبدي، فعَلِم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، أُشهدكم أني قد غفرت له، ثم عاد إلى خطيئته، فقال: رب أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فقال الله لملائكته: أذنب عبدي فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، أُشهدكم أني قد غفرت له، ثم عاد ثالثة، أو الرابعة، فقال الله تعالى: أُشهدكم أني قد غفرت له، فليعمل ما شاء"؛ يعني: ما دام هذه حاله أنه يَصدُق في توبته وإن غلَبت عليه طبيعته الآدمية، فإن مآل أمره إلى خيرٍ ما دام يبادر إلى التوبة.
فنسأل الله جل وعلا أن يفتح على قلوبنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يُعيذنا من السيئات، وأن يُقربنا لطاعته، وهو المستعان جل وعلا.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلْق الله نبينا محمد؛ فقد أمر الله بذلك، فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا ووُلاة أمورنا، اللهم وفِّق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة الناصحة، وأبعِد عنه بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكْفهم شِرارهم.
اللهم مَن أراد للإسلام والمسلمين بسوء، فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغارًا.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، نسألك وأنت الملك المنان ألا تدَع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا مبتليًا إلا عافيته، ولا مذنبًا إلا إليك ردَدته برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، إن بأمة نبيِّك محمد عليه الصلاة والسلام من الفرقة والشدة واللأواء ما لا يعلمه إلا أنت، ولا يَقدِر على كشْفه إلا أنت، فعجِّل اللهم بالفرج للمسلمين.
اللهم عجِّل لهم بالفرج، اللهم احقن دماءهم في سوريا وفي ليبيا واليمن، وفي غيرها من البلاد يا ذا الجلال والإكرام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.