معرفة سنن الإصلاح والتغيير
د. وصفي عاشور أبو زيد
من مظاهر أهمية القرآن في حياة المسلم
"معرفة سنن الإصلاح والتغيير"
مما يبيِّن قيمةَ القرآن في حياة المسلم أنَّه يحوي بين دفَّتيْه قوانين التغيير وسنن الإصلاح، ومقومات النَّصر، وهي قواعد مطلقة عن قَيْد الزمان والمكان والأشخاص، ومُطَّردة في كلِّ حال، وتصدُق على كل الأجيال والأجناس والأوطان.
ففي مجال تغيير النَّفس الإنسانية: وضع القرآن الكريم قانونًا عامًّا مطَّرِدًا مطلقًا حين قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وقال: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53].
وفي مجال الأسرة: أقامها على المودَّة والرحمة، والسَّكَن النَّفسي والحب القلبي، وجعل ذلك آيةً من آياته: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وأوصى كلٍّا من الزوجة والزوج بالحِفاظ على هذا الكِيان، وشرع له في كلِّ مراحله ما يقيمه ويحفظه من التصدُّع والانهيار؛ كما الحال في وقوع الخلاف، فأوصى القرآن بقيام الحَكَمَين: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء: 35]، حتى بعد انتهاء الحياة الزوجية أمَر بالإحسان والمعروف، وحِفظ الأسرار، وعدم نسيان الفضل.
وفي مجال المجتمع: شرَع له ما يحفظه من إثارَة الفِتن، فنهى عن إشاعة الفاحشة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19]، وحدَّ الحدود على جرائم محددة، جُلُّها أو كلها يهدِّد أمنَ المجتمع؛ فحرَّم السرقة وجعل لها حدًّا، وحرَّم الزِّنا وجعل له حدًّا، وحرَّم الحِرابةَ وجعل لها حدًّا، وحرَّم إشاعة الفاحشة والخوض في الأعراض وجعل لذلك حدًّا...، وهكذا، كل ما كان له أثر في حفظ المجتمع فَرَضَه وأمَر به، وجعل لكل من يُهدِّد أمْنَه ويُقوِّض استقراره حدًّا معلومًا.
ومن المقرَّر أن العبادة التي لها أثر مجتمعي؛ مثل صِلَة الرَّحِم، والإحسانِ إلى الجار، وحسن معاملة الناس...، وغير ذلك من العبادات الاجتماعية - جعل الإسلام لها مكانةً خاصَّة، ورتَّب عليها أجرًا لم يرتِّبه على العبادات الفردية التي لا يتعدَّى نفعُها إلى المجتمع، وكذلك الجرائم والمناهي الشرعية المجتمعية، رتَّب الله عليها من العقوبة والإثم ما لم يرتِّبه على الجرائم والمناهي الفرديَّة التي لا يتعدَّى ضررها دائرةَ الفرد، وهذا من الأدلَّة المتواترة على اجتماعيَّة وإنسانيةِ هذا الدِّين العظيم.
ولهذا يقول د. محمد البهي: "والمجتمع الإسلامي هو مجتمع إنساني؛ يَدعو إلى الرَّوابط الإنسانية بين الأفراد في الدرجة الأولى، كما يدعو إلى تبادل المصالح المادِّيَّة، ولكن في محيط العلاقات الإنسانية"[1].
وقال: "إنَّ التشريع المدني للعلاقات بين الأفراد في الأمَّة يقوم على أساسِ أنَّ الروابط بين بعضهم البعض هي روابط إنسانية؛ أي: يحكمها المستوى الإنساني بخصائصه المميزة؛ فوق الأسرة والقبيلة، والشَّعب والعِرق أو الأصل، وأساس الروابط الإنسانية في رسالة القرآن هو الإيمان بالله وحده؛ لأنَّ الإيمان بالله وحده ينطوي على الإيمان بالقِيَم العليا أو المُثُل الرفيعة التي تحدِّد صفات الله سبحانه، والتي يَسعى العابد إلى الاقتراب منها بعبادته"[2].
وعلى مستوى الأمَّة كلها: ذكر مقومات هذه الخيريَّة، التي بدونها لن تبلغ هذا التكريم، ولن تصِل لهذه الدرجة، فقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، وجعل وحدتها فريضةً دينية وضرورة واقعيَّة، فقال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وقال: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52].
وهدَّد وبيَّن وخِيمَ العواقب والمآل لِمَن فرَّق بينهم أو فرَّق دينه، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159].
وشدَّد العقوبةَ لمن أراد أن يفرِّق بين المسلمين وهم جميع؛ فعن عَرْفَجَة بن شُرَيْح الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستكون بعدي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ - ورَفَع يدَيْه - فمَن رأيتموه يُفرِّق بين أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم وهم جميع، فاقتلوه كائنًا مَن كان من الناس))[3].
كما بيَّن سنن النَّصر على مستوى الأقوام والجماعات، وبَيْن الأفراد والمجتمعات، وجعل سننًا كونية لهذه الأمور، متى اتَّبَعها الإنسان انتصر حتى وإن كان كافرًا، ومتى أهملها وضيَّعها انتكس وانهزم حتى ولو كان من المؤمنين؛ فإنَّ السنن والأقدار تقتصُّ من المقصِّرين المفرِّطين، كما تقتصُّ من الظالمين المعتدين.
[1] منهج القرآن في تطوير المجتمع: 4، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1412هـ، 1995م.
[2] السابق (67).
[3] مسند الإمام أحمد: المجلد الرابع، أول مسند الكوفيين، حديث عرفجة بن شريح رضي الله عنه.