من وحى أهل الحديث
شهادة الشهود و رواية العدول
للإمام المحدث الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي القرطبي
أعترض البعض على خبر الآحاد فقالوا:
إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد به العدول مع إمكان أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهدوا به.
والجواب:أن بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس .
أحدهما :أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا، ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا ؛ بل قدر تعالى بأن كثيراً من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا . وقد نص على ذلك رسول الله إذ يقول: » إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا «[البخاري:كِتَاب الشَّهَادَاتِ بَاب مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ]
وبقوله عليه السلام للمتلاعنين: »إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ«[البخاري:كِتَاب الطَّلَاقِبَاب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلَاعُنِ]
والفرق الثاني:أنَّ حُكْمنا بشهادة الشهودقد فرضه الله علينا وإن كانوا في باطن أمرهمكذَّابين أو واهمينوالحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا.
برهان ذلك : أن حاكماً لو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما . فإن ذلك الحاكم فاسق عاصٍ لله عز وجل، ونحن مأمورون يقيناً بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل ، وأن نبيح هذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل ، وحرم على المبطل أن يأخذ شيئاً من ذلك . وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فُسَّاقٌ عصاة له تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم .
وفرق ثالث:إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة :"قال رسول الله عليه السلام كذا" و"أمرنا الله سبحانه تعالى بكذا" و"نهانا الله تعالى ورسوله عن كذا"
ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول : "شهد هذا بحق" ، ولا "حلف هذا الجانب على حق"
لكن الله تعالى قال لنا : احكموا بشهادة العدول.
فكل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى ، مضاف إلى رسول الله محكي عنه أنه قاله.
وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى لأنه أمرنا بالحكم به ، ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به ، وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى ، ولا أنه حق مقطوع به .