الحمد لله المحمود حقاً، والشكر له ولم يزل للشكر مستحِقًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله المالك للرقاب كلها رقًّا، خلق الأشياء فأحكمها خلقًا، وفتق السماء والأرض وكانتا رَتْقًا، و قسَّم العباد فأسعد وأشقى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ﴾ .
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أشرف الخلائق خُلُقا وخَلْقًا ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أكرم البشر حقًا.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. هانحن في السنة الخامسة من الهجرة .. خمس سنوات مضت على انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إلى المدينة, خمس سنوات مضت على رفع شعار الإسلام, وإقامة عماده, وظهور راياته, خمس سنوات مضت .. بعد الشدة والكربة والذلة في مكة على أيدي كفار قريش..
كفار قريش .. الذين ضاق بهم حال تلك الصفوة المؤمنة المتوضئة, كفار قريش الذين لم يعجبهم انتشار الإسلام, وعودة الناس إلى فطرتهمُ التي فطرهم الله عليها, كفار قريش الذين كانوا يتسنمون مرتبة عليا بين العرب وحالَ حُب الرياسة بين كثير منهم وبين الإيمان بهذا الدين العظيم, كفار قريش الذين لا يمانعون أن يتحدوا مع أي أحد في سبيل القضاء على دين الله سبحانه وتعالى ولو كان مع من لا يراهم شيئاً كاليهود ..
اليهود .. من يجاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة, وقد عقد معهم المعاهدات ليتعايش الجميع ويحيون بسلام, إلا أن البعرة تدل على البعير, والغدر يدل على اليهود.
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وساداتِ بني النَضير إلى قريشٍ بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالمناصرة لهم، وأن الدم بالدم والهدم بالهدم, فالعدو مشترك, والهدف واحد وهو القضاء على الفئة المؤمنة حتى لا تقوم لدين الله تعالى قائمة بعد ذلك.
أجابت قريشُ وفد اليهودِ إلى ما دعا إليه, فخرج هذا الوفد من مكة ومرَّ على قبيلة غطفان ودعاها إلى ما دعا إليه قريشًا فأجابته, ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى العدوان على المدينة، فاستجاب له من استجاب, وتواعدت الجموع باللقاء على حدود المدينة .. هدفهم القضاء على الإسلام .. ولسان حالهم: لن نغلب اليوم من قلة.
بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشار الناس فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه أن يُحفر خندق حول المدينة .. يحول بين تلك الجموع وبين دخول المدينة..
واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتراح.. وأعلن إشارة البدء للصحابة رضوان الله تعالى عليهم لتنفيذ هذا المشروع.. وقسَّمهم إلى مجموعات.. كلُّ مجموعة مكونةٍ من عشرة رجال .. مهمتهم حفرُ أربعين ذراعاً.
وابتدأ الصحابة رضي الله عنهم العمل .. يسابقون الزمن قبل أن تصل قريش .. وحالهم جوع وخوف وبرد .. ولسان حال الواحد منهم:
صُـَّبـت عليَّ مـصائبٌ لـو أنها ... صُبَّت على الأيام صِرنَ لـيـالـياً
ويمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يمر على المهاجرين والأنصار.. يكسر بعضهم الصخر, ويحفر آخرون في الرمل, ومنهم من ينقل الحمل على ظهره, فينظر إليهم الحبيب نظرة الشفقة والرحمة والاعتزاز, ويقول رافعًا صوته ليسمعهم:
اللهم لا العيش إلا عيشُ الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
فيسمع الصحابة هذه الدعوات الجميلة من حبيبهم صلى الله عليه وسلم فيجيبونه:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبداً
كان صلى الله عليه وسلم واحدًا من القوم, وقد انضم إلى مجموعة من عشرة رجال كبقية الصحابة, قال البراء بن عازب رضي الله عنه: رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب، ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
كان المسلمون يعملون بنشاط وحماسة وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد, قال أنس رضي الله عنه: كان أهل الخندق يؤتَون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سَنِخَة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع. والإهالة: الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتًا أو سمنًا أو شحماً, والسَنِخَة: التي تَغَيَّرَ طعمها ولونها من قِدَمِهَا وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن.
قال أبو طلحة رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين.
وما هي إلا أيام وإذا بجيش الأحزاب العرمرم والذي قوامه عشرة آلاف مقاتل يصل ويجتمع ويعسكر حول المدينة .. عشرة آلاف .. ربما هذا العدد يفوق كامل من في المدينة من الرجال والنساء والصبيان كما ذكر ذلك بعض المؤرخين..
في تلك الفترة كان الفصل شتاءً.. وكانت الأجواء باردة, شديدة البرودة, {وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً}.
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش كما وصفهم الله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نحوُ ثلاثةِ آلاف من المسلمين .. فاستقبلوا المشركين من طرف الخندق, والمشركون من الجهة الأخرى, ومكث الكفار شهرًا أو قريبًا منه يحاولون أن يجتازوا هذا الخندق دون جدوى.
ابتدأ حصار الأحزاب للمدينة في شهر شوال .. واجتمع على المسلمين في المدينة خلال فترة الحصار ألم الجوع, وشدة الخوف, وقسوة البرد, حتى كان الواحد منهم يخاف أن يخرج ليقضي حاجته.
وإذا أراد الله تعالى أمرًا فلا راد لأمره, ففي ليلة من ليالي ذي القعدة دب الخلاف والفُرقة في صفوف الأحزاب من قريش وغطفان واليهود, وشك كل طرف باستمرار الطرف الآخر على عهده, في قصة يطول المقام عن ذكرها, وكان دعاء المسلمين تلك الأيام: «اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم أهزمهم وزلزلهم».
وقد سمع الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين، وسرى بينهم التخاذل، أرسل الله عليهم جندًا من رياح قوية باردة، فجعلت تُقوِّضُ خيامهم، ولا تدع لهم قِدرًا إلا كفأتها، ولا طِنبًا إلا قلعته، ولا يقَرُّ لهم قرار، وأرسل تعالى جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرِهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} فصدق الله تعالى وعده وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم, إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. بعد هذا الحصار .. والمكر الكبار .. واجتماع جيوش الكفار ..وخوف المهاجرين والأنصار.. حصل الانتصار !
انتصار بداية بكف أذى أولئك الأحزاب, ورد كيدهم ورجوعهم خاسرين خاسئين إلى بلدانهم, ثم انتصارٌ ثانٍ بعدها بثلاث سنين فقط, حيث أورث الله تعالى المسلمين الذين كانوا مستضعفين محاصرين داخل رقعة صغيرة من الأرض, أورثهم أرض اليهود وأرض قريش ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا منتصرًا.
إن النصر مع الصبر, والفرج بعد الشدة, {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.
إن حال الأحزاب في ذلك الزمان .. شبيه بحال أحزاب هذا الزمان..
فلقد اجتمع أحزاب اليوم من يهود ونصارى وصفويين وباطنيين اجتمعوا وتحزبوا لحرب أهل السنة.
إن ما يجري اليوم في العراق والشام, وما شاهده الجميع خلال الأيام الماضية في حلب الشهباء من إبادة البيوت والمشافي والأسواق .. تهدم المباني فوق رؤوس أهلها .. إن كل ذلك دافِعُهُ ولا شك الحرب على أهل السنة.
دعك من قول الإعلام أنه حرب على الإرهاب.. وإلا فأي إرهاب مزعوم في المستشفيات أو الأسواق؟ أهؤلاء الأطفال والنساء والشيوخ الذين شاهدناهم قتلى وجرحى في وسائل الإعلام إرهابيون؟ إن كانوا كذلك فكلنا في نظرهم إرهابيون.. إنما هي شماعة الإرهاب التي يعلق عليها كل فعل سيء.
لا بد أن يعي المسلمون أن شعارات الحرية وحقوق الإنسان التي يتغنى بها الغرب إذا تعارضت مع مصالحهم انقلبوا عليها ورموا بها عرض الحائط.
فبالله عليكم أليس ما يقوم به النظام السوري والروسي والأمريكي من قصف للأبرياء وقتل العشرات أو المئات يوميًا .. أليس إرهاباً؟ إن لم يكن هو الإرهاب فما هو الإرهاب؟!
لماذا يسلط الإعلام الضوء على حوادث القتل أو التفجير والتخريب إذا كانت من مسلم.. ويغضون الطرف عن الجرائم الفضيعة إذا ارتكبها غير المسلمين؟
لا بد من الوعي بحيل صُنَّاع الإعلام, وطرق تشكيل ثقافات وقناعات المجتمع.
لقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة معه بأسباب النصر لما تحزبت عليهم الأحزاب, فاجتمعوا ووحدوا صفوفهم أولاً, ثم رتبوا أنفسهم ووزعوا المهام بينهم بدقة متناهية, ولجأوا إلى الله تعالى بالدعاء وسؤاله النصر, فنصرهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا, وإن أهل السنة متى أرادوا النصر اليوم فلا بد أن يأخذوا بأسباب النصر.
لا بد أولاً من الاجتماع وتوحيد الكلمة, لا بد من أن يحمل المسلمون هم أمتهم, لا بد أن نعيش كالجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ولا بد أيضًا من بذل الدعاء..
ارفع أكفك بالدعاء تضرعاً ... ما خاب من يرجو الكريمَ ويطلبُ
اسأله ذُلاً للذين تجبروا ... فالله يقصِم من يشاء ويُعْطِبُ
الدعاء الدعاء لإخوانكم في كل مكان, لا يمرنَّ عليكم يوم دون أن يكون لأمتكم نصيب من دعاءكم, استغل يا أخي مواطن الإجابة .. ألِحَ على الله تعالى في آخر ساعة من هذا اليوم أن ينصر المسلمين ويخذل الكافرين.. ولا تستهن بالدعاء فإنه سلاح ماضٍ وأعجز الناس من عجز عن الدعاء كما جاء في الحديث.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاء
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.