مشروع "العالم المتفرّغ لنشر العلم"
مما يستوقف القارئ في ترجمة أبي عبيد القاسم بن سلاّم ـ رحمه الله ـ ما رواه الخطيب البغدادي في "تاريخه" أنه حين صنّفَ أبو عبيدٍ كتابه "غريب الحديث"، عُرِضَ على الأمير عبدالله بن طاهر فاستحسنه، وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عملِ مثلِ هذا الكتاب لحقيق أن لا يُحْوَجَ إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر([1]).
وقريبٌ من هذا، قولُ عبدِ الله بن المبارك ـ حين كان يتجّر في البّزِّ ـ: لولا خمسة ما اتجرت، فقيل له: يا أبا محمد مَنْ الخمسة؟ فقال: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ومحمد بن السماك، وابنُ علية، قال: وكان يخرج فيتجر إلى خراسان، فكلما ربح شيئاً أخذ القوت للعيال ونفقة الحج، والباقي يصل به إخوانه الخمسة.
وابنُ المبارك ـ أحدُ الأئمة ـ كان مستغنياً بتجارته، ولو شاء لتفرّغ بقية حياته للتحديث والفتيا، لكنه آثر أن يستمر في تجارته؛ ليقوم بكفاية إخوانه من العلماء الذين سمّاهم.
إنها نماذج توحي بأن فكرة كفايةِ العالِمِ، وتفريغه لتعليم العلم وبثّه في الأمة= كانت حاضرةً في نفوس أهل الفضل من الأمراء والعلماء؛ لما لذلك من الأثر العظيم على العالم وطلابه، وعلى الأمة كلها.
والمشاهد أن عدداً كبيراً من العلماء، تمضي زهرة شبابه، وبدايات حياته العلمية بين الرغبة في الطلب، وهمِّ توفير لقمة العيش الذي يستغني به عن الخلق، حتى إذا ما نضج واشتد عوده، واحتاجت الأمة لعلمه، إذا بقواه البدنية قد كلّت بسبب الوظيفة، التي وإن لم تُثْقل كاهل البدن في كل الأحيان، إلا أنها تشغل الذهن على الأقل.
لقد حدّثنا التاريخ عن علماء كثر، لم يستطعيوا التفرغ لبثّ العلم حتى استعفوا من وظائفهم، منهم: القاضي والعالم المالكي الشهير أبو بكر ابن العربي، حيث قال عنه مترجمه: "ثم استعفى عن القضاء، فأعفي، وأقبل على نشر العلم وبثه"([2])، فتأمل في قوله: "وأقبل على نشر العلم وبثّه"، إذْ لم يأت إلا بعد الاستقالة.
وهذا يقودنا إلى الإجابة عن السؤال الذي يطرحه بعض الفضلاء: إذاً مَنْ يتصدى للقضاء؟ وللتدريس في الجامعات؟ ومدارس التعليم العام؟
والجواب أننا حين ندعو إلى تبني "مشروع العالم المتفرّغ" فهذا بالتأكيد، يعني أنه لا يفرّغ أيُّ أحد، بل يفرغُ من عُرِف بالعلم وطلبه، وبثّه في الناس، وشهرة مثل هؤلاء لا تخفى، ويبقى في تلك الوظائف المذكورة من ليس بدرجة هؤلاء العلماء.
وعلى المؤسسات المانحة أن تسعى في إيجاد أوقافٍ تليق بوظيفة هؤلاء العلماء، وأن تستشير كبار أهل العلم في الضوابط والشروط التي ينبغي أن تتوفر فيمن يستحق ذلك، ويسبق هذا: وضع الشروط التي تضبط الأمر، وتحميه من الانفراط، أو التسوّر عليه، فيأخذه من ليس أهلاً، ويحرمه من هو أهلٌ، على أن تكون هذه الأوقاف تغني وتكفي أولئك المتفرغين، وتراعي ما يليق بحالهم علمياً واجتماعياً، وبما يرفع المنّة عنهم، فطالب العلم بله العالم لن يرضى بأن يعيش مقتاتاً على مالٍ من شخص بعينه ـ مهما كان قدره ـ، بل إذا كان ضمن مشروع وقفي كبير، فهو أدعى لقبوله، وتاريخ المدارس العلمية([3]) أكبر شاهد على عراقة هذا النوع من المشاريع الوقفية.
لقد كنتُ أتساءل منذ مدّة ليست بالقريبة: ماذا لو وجد في بلادنا علماء متفرغون لنشر العلمِ وبثّه؟ بحيث لا تخلو منهم أوقات اليوم الخمسة، كما كان حال بعض العلماء قبل انتشار الوظائف الحكومية وغير الحكومية؟
ولو نظرنا في نموذج قريبٍ، لأَثَرِ تفرّغ العالم على إنتاجه المكتوب والإنتاج المتمثل في الطلاب؛ فهو لعلَمٍ من أشهر علماء البلاد ـ في القرن الماضي ـ: شيخِ مشايخنا العلامةِ عبدِالرحمنِ بنِ ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ(ت: 1376هـ)، فقد كان يجلس لطلاب العلم في غالب أوقات اليوم؛ لأسباب من أهمها: أنه كفي مؤنة رزقه ـ، فتخرج به علماء كبار، نفع الله بهم الساحة العلمية، منهم: شيخنا ابنُ عقيل (1432هـ)، والشيخُ ابن بسّام (ت: 1423هـ)، وشيخنا ابنُ عثيمين (ت: 1421هـ) وغيرهم، رحمهم الله تعالى جميعاً، وهذا مما يزيدنا قناعةً بأهمية المبادرة والمسارعة في هذا المشروع العظيم.
واليومَ في بلاد الهند وبعض بلاد الإسلام من هذا النوع من العلماء كثير، صاروا ـ بسبب تفرغهم ـ مقصداً لطلاب العلم، يسافرون إليهم، ويقرأ الطالب عندهم في شهر ما لا يقرأه عند غيرهم في ثلاثة أو خمسة أشهر.
لئن كانت الكفايةُ في المعيشة في زمنٍ مضى تحصل بقليل من المال، فإن الحال اليوم مختلفة، بسبب الغلاء المتزايد، وكثرةِ متطلبات الحياة، وازديادِ مساحةِ التواصل مع الناس بدنياً وتقنياً، وسهولةِ السفر والتنقل من وإلى العلماء وطلبة العلم الكبار، فمراعاة ذلك مهمة، ويحسن أن ينظر في توفير السكن الذي يؤوي قاصدي هذا العالم من طلاب العلم.
إن حقّاً على أهل الثراء الأخيار أن يبادروا بإطلاق هذا النوع من المشاريع، فهو من أعظم وأجلِّ المشاريع، والأثرياءُ ـ وهم كُثُرٌ بحمد الله ـ أولى بتفريغ هؤلاء العلماءِ، وأحقُّ بالحرص من أهل الفن والكرة على تفريغ الفنانين واللاعبين، وبالمبالغ الطائلة سنوياً، لأجل اللهو واللعب!
وبعدُ: ففي الساحة علماء وطلبة علم كبار، لو فُرِّغوا لبثّ العلم، وكُفوا مؤنة الرزق؛ لصاروا قبلةً لطلاب العلم من أقطار الدنيا، ولسان حال هؤلاء العلماء: لا شيء أحبُ إليّ من نشر العلم، والتصدي لبثّه ولكن... فمنْ ينال شرف السبق، وعظيم الأجر؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) تاريخ بغداد (14/ 392).
([2]) "الصلة في تاريخ أئمة الأندلس" لابن بشكوال (ص: 144).
([3]) ينظر في تاريخ كثير منها: "الدارس في أخبار المدارس" للنعيمي (ت: 927هـ).