عائلة مرشحة جدا (قصة)
حميد بن خيبش
للمغارِبة مثَل شعبي طريف، يجدر بي نقله للفصحى كي تتَّسع دائرة الفهم، وإن كنتُ ممن لا يحبِّذون ترجمةً تُفقد النصَّ بهاءه، يقول المثَل: "الفقيه الذي نلتمس بركتَه، دخل الجامع ببلغته"، والبلغة خُفٌّ جلدي من بين مصنوعات تقليدية أخرى تشتهر بها بعض مدن المغرب.
طبعًا مَن تملَّكه حسُّ الفضول، فعليه زيارة موقع ويكيبيديا؛ لأن ما يشغلني اللَّحظة ليست (البلغة) تحديدًا، بل القدمان المفلطحتان اللتان تنتعلانها، والكرش الضَّخم الذي ناءت بحمله الرُّكبتان فانفرجتا إلى ما يشبه قوس النَّصر، والعنق التي اندقَّت تحت وطأة رأس مثقل بهموم البلدة وأهلها.
ولد "الحاج" ليكون رئيسًا ولو على طاولة مقهى تضمُّ شخصين، مواهبه في الادِّعاء والزهو لا حدَّ لها، فحين يكون حظك من التعلُّم سنوات قلائل، لا يلبث فضاء متخم بالجهل أن يتوِّجَك سلطانَ العارفين، لكن للحاج لَمسته الخاصَّة التي اغتنمت سلسلة من الأحداث لتقنع الأهالي بأنَّه الوحيد القادر على إسماع صَوتهم خارج بلدةٍ مطوقة بالجبال من كل ناحية.
سار على خُطى الحاج ابنُه وابنته وصهره، دون أن ترفع الجبال حصارها المضروب على البلدة، أضحَت السياسة رديفة الشيطان حين يصب الأهالي جام الغضب على محترفيها في اللقاءات العفوية، إن لم يكن لابن البلدة غيرةٌ على عشيرته فمن تراه يَغار؟ بدَت السياسة كعجوز شمطاء ممَّن تضج بهن حكايات الجدات؛ وجهٌ حفرَته التجاعيد، وفمٌ تناثرَت أسنانه فصار كتجويف مظلِم يلقي بالأكاذيب والوعود يَمنةً ويَسرةً، دون استحياء أو وَخزة ضمير.
دُعابات ياسين، الناجي الوحيد من حِصار الجبل، والذي حصل على شهادة البكالوريا منذ سنتين، تثير في المقهى زوبعة ضحك سرعان ما تهدأ ليعمَّ المكان صمتٌ مشوب بالغيظ، يؤكِّد ياسين أنَّ الخسائر المادِّية والبشرية التي خلفَتها وعود الحاج وأكاذيبه أفدح من مخلَّفات حرب "لاندوشين":
• إن اسم الحاج يستحق أن يُدرج في كتاب "غينيس"!
يبدِّد علامات التساؤل البادية على الجباه، مضيفًا بأنه سِجل للأرقام القياسيَّة يتسلَّى به المتشابهون حد الضجر، استثناءات من صنع الطبيعة أو الحماقة: أطول رجل، أسرع سمكة، أكبر صحن فلافل، أضخم كعكة...
يتأفَّف من إصرار الناس على تجديد الولاء لأبي "كرش" الذي يقضي سحابةَ يومه في مزرعته الشاسعة بضواحي العاصِمة، ولا يُغبِّر حذاءه في هذه البلدة إلَّا مرةً كل خمس سنوات ليستجدي أصواتهم، مخلوقٌ مثله ما كان ليتذوَّق طعم الكافيار، ويفصل جلبابه الحريري في أشهر دار للخياطة، لو لم تحمله أكتافكم هو وأقاربه إلى قبَّة المجلس الوطني، لولا أن تكون سُبة في ديوان السياسة، لأمركم بالتصويت على بغلته الشهباء، وأكيد أنَّكم كنتم ستُذعنون!
رفض عرضًا مغريًا من الحاج لقاء مغادرة البلدة، والإبقاء على لسانه معلقاً بسقف اللهاة، قلبه مِرْجَل يغلي ثأرًا ونقمة على مَن تسبَّب في حرمان أخويه من سلك الجندية، يصر ابن الـ... على عزل البلدة عمَّا يجري في الخارج، كأنَّها مصابة بعدوى؛ ليظلَّ بمفرده أيقونة الفهم.
أفلت ياسين من قبضته صغيرًا حين ألحَّت الخالة العاقر على تخفيف عبء الأسرة.
هناك - في العاصمة التي بدَت الرحلة إليها أشبه بما يدور في قصص سندباد - تمكَّن ياسين من الظفر بمقعد دراسي وحشو دماغه لسنوات، بما يصنع فارقًا هشًّا في دوائر صنع القرار ببلده، ما الحاجة إلى التعليم في بلد يقرِّر أمثال "الحاج" ميزانيَّته وأوجُهَ صرفها؟
(سامية): الابنة الكبرى للحاج، ووريثة سرِّه، أرملة في الخامسة والثلاثين، حرَّرَتها المشيئة من قبضة سكِّير معتوه، قيل: إنَّ للحاج يدًا في مَقتله، لكن محضر الشرطة يؤكِّد أن الشاحنة هوَت إلى المنحدر بسبب عطلٍ مفاجئ في المحرِّك، لم يُخف الحاج امتعاضه وهو يتلقَّى التعازي في "كلب" مثله لا يستحقُّ حتى الدَّفن، أمَّا (سامية) التي رفضَت خوض التجرِبة مرَّة أخرى، فتمَّ إلحاقها باللائحة النسوية للحزب؛ لتحظى بمقعد في المجلس الوطني يسلِّيها وينسيها الهموم.
لا شغل لسامية اليوم غير تسلية قرَّاء الصُّحف بمواقف يضطر الحزب كل مرَّة للاعتذار عنها، يَعجِز المرء أحيانًا عن تقدير كَمِّ الغباء اللازم للثِّقة في جدوى (سيرك) يومي لا يكفُّ مهرِّجوه عن تدبير المقالب:
• "النائبة سامية تَستقبل وفدًا أجنبيًّا".
• "النائبة سامية تحضر فعاليات المنتدى الإيكولوجي".
• "انتخاب النائبة سامية عضوة بالمرصد الدولي لـ...".
أسرَّت الخادمة يومًا لبعض أقارب ياسين كيف كانت سامية تجهش بالبكاء ثمَّ تنزوي في غرفتها لساعات، فالجهل باللغات الأجنبية وآداب اللِّياقة وضعها تحت رحمة كاتِب خاص يعاملها كطِفلة بلهاء، ولولا الأقراص المهدِّئة لاعتراها الجنون:
• ابتسمي! صفِّقي! قولي: (ميرسي)! وقِّعي.. نعم، نفس التوقيع رجاء!
وحده عياد صهر الحاج مَن يبدو مستوعبًا لشروط اللعبة، وحريصًا على اغتِنام ضربة حظٍّ لن تتكرر، فور حصوله على مقعد الدَّائرة، التي تسرَّبَت شائعة مفادها أنَّ ياسين يحوم حول مفاتيحها، سعى للتقرُّب ممن يرغبون في تبييض رشاوى وعمولات بعيدًا عن أعين الصحافة والضرائب.
أمَّا الحاج، فكان بوصلة بامتياز تحدِّد المناطق التي يمكن اقتناء عقارات فيها دون لفت انتِباه أحَد، وفي غضون أشهر قلائل سطع نجم "عياد" كنائب يزمجر تحت القبَّة الكريمة، مطالبًا وزير الإسكان بتوفير سكَن لائق للمحرومين!
يبصق ياسين متبرمًا من الجهل الذي تئنُّ تحت وطأته البلدة وأهلها، جهل يُحصن الامتيازات، يُحصِّن الامتيازات، ويحقِّق عائدًا انتخابيًّا مريحًا؛ بل الأدهى من ذلك أنَّ أهله راضون به، يشير أحدهم إلى كومة أسمنتٍ تبرَّع به الحاج لإتمام صَومعة المسجد:
• رغم كل شيء، يبقى الحاج ابن بلدتنا!