«
رمضان» .. استراحة نفسية نتخفف فيها من أعبائنا وهمومنا وأحزاننا، ومنحة سماوية نفارق فيها صنوف الرتابة والملل التي غشت أيامنا، وتنطلق فيها الروح في أجواء إيمانية، وثورة نورانية نتعايش فيها أكثر مع القرآن والقيام والبر والإحسان.
«
رمضان» .. ساحة السكينة، ومأوى الفضيلة، وطارد الرذيلة، ومحضن كل الأشياء الجميلة، حتى أن خلوف فم الصائم يستحيل جمالا وروعة وبهاء، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» [متفق عليه]
«
رمضان» .. كم من جوائز تُذكر، ومنح ربانية لا تُنكر، ونفحات لا تُجحد .. على عملنا اليسير، وجهدنا القليل، وجسدنا النحيل .. فتبارك العلي القدير الذي وعد ووفى، وأعطى فأجزل، وغفر ورحم، ووهب في هذا الشهر الجليل رحماته للمؤمنين، وأعتقهم من مهاوي الجحيم.
قال ابن القيم: الطاعة حصن الرب تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين، فإذا فارق الحصن اجترئ عليه قطاع الطريق وغيرهم، وعلى حسب اجترائه على معاصي الله يكون اجتراء هذه الآفات والنفوس عليه، وليس شيء يرد عنه، فإن ذكر الله وطاعته والصدقة وإرشاد الجاهل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقاية ترد عن العبد، بمنزلة القوة التي ترد المرض وتقاومه، فإذا سقطت القوة غلب وارد المرض وكان الهلاك، ولابد للعبد من شيء يرد عنه فإن موجب السيئات والحسنات يتدافع ويكون الحكم للغالب كما تقدم، وكلما قوى جانب الحسنات كان الرد أقوي. [الجواب الكافي]
وعن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-: أن رجلين من بلي قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إسلامهما جميعاً، فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فَأَذِن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدثوه الحديث فقال: «من أي ذلك تعجبون» فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكث هذا بعده سنة» قالوا: بلى، قال: «وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة» قالوا: بلى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض» [رواه ابن ماجة].
والصوم تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: الصبر على ألم الجوع والعطش، والصبر على المعاصي، والصبر على الطاعات.
والصبر كله خير وكله ضياء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر» [رواه الحاكم]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أفضل عيش أدركناه بالصبر".
والصدقة في شهر رمضان شأنها أعظم وآكد ولها مزية على غيرها، وذلك لشرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه، ولأن فيها إعانة للصائمين المحتاجين على طاعاتهم، ولذلك استحق المعين لهم مثل أجرهم، فمن فطر صائماً كان له مثل أجره، ولأن الله عز وجل يجود على عباده في هذا الشهر بالرحمة والمغفرة، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل، والصوم لابد أن يقع فيه خلل أو نقص، والصدقة تجبر النقص والخلل، ولهذا أوجب الله في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، ولأن هناك علاقة خاصة بين الصيام والصدقة فالجمع بينهما من موجبات الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفا، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها؛ أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» [رواه أحمد].
وقد تقرر بالاستقراء عند العلماء أن الأوقات الفاضـلة والأزمان المباركة أواخرها أفضل من أوائلها, فيوم الجمعة أعظم أيام الأسبوع, لكن أبرك ساعاته وأرجاه قبولاً للدعاء فيه آخر ساعة منه، وأفضل الليل ثلثه الآخر, والسحر وهو السدس الآخر من الليل منَّوهٌ بشأنه, وهكذا فليس رمضان ببدع في ذلك, فرمضان موسم إلا أن عشره الأخيرة هي صفوة الشهر, والعبرة بالخواتيم.
وهذه العشر خاتمة الشهر ودرَّته, ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها, فكان يشوب العشرين بمنام وقيام, وأما هذه الليالي فيحييها كلها صلاة وتلاوة وذكراً, وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. [رواه مسلم].
وتصف أم المؤمنين عائشة حاله –صلى الله عليه وسلم- فتقول: كان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. ومن دقيق عنايته بها انـقطاعه فيها عن دنيا الناس للاعتكاف, فمذ هاجر إلى المدينة إلى أن توفاه الله سبحانه ما ترك الاعتكاف, بل لتأكد هذه السنة قضاها في شوال لما لم يعتكف سنة في رمضان.
أكرم برمضان ربيع الطائعين وموئل المخبتين وجنة العابدين .. محط الرحمات، ومظنة العتق من الأصفاد، والتطهر من الأدران، فاللهم تقبل منا رمضان، واكتب لنا فيه مغفرة لا نشقى بعدها أبدا.
د/ خالد سعد النجار
[email protected]