بسم الله الرحمن الرحيم
الصِّيَامُ جُنَّة
الحمد لله الذي جعلَ الحمْدَ مفتاحًا لذكره وعنوانا، وأرسل رسله بالبينات تذكرةً وتبيانا، وأنزل كتبَهُ هدايةً وموعظةً وفرقانا، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، الإلهُ الأعلى، خَلَقَ الجنةَ والنارَ، وخلقَ لكلٍّ منهما أهْلا؛ عدلا وفضْلا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكملُ الناسِ إيمانا، وأولاهم رحمةً وإحسانا، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه؛ إشهادًا على محبته واتباعه وإيذانا، وعلى آله وصحبه الذين كانوا له أنصارًا وعلى الخيرِ أعوانا، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.. أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله ربكم، والزموا خشيتَه، واسْتحْضِروا مراقبتَه، وأخلصوا له عبادتَه، وابتغوا منه رحمتَه؛ فإنما أنتم في موسم عظيم، وإنما المواسمُ فُرَصٌ سوانِح، ما إِنْ يَحُلُّ شيءٌ منها إلا وهو منصرمٌ ورائح..
ولقد بلغتم بفضل مولاكم موسمَ البركاتِ والنفحات، موسمًا تعتق فيها الرقاب من النار، وتكفَّرُ السيئات، وتُضاعَفُ الحسنات؛ فاغتنوا شهركم وبادروا، وسارعوا إلى الخيرات وأمِّلُو في جودِ المنانِ تعالى وأبْشِرُو، ولْيُحْسِنْ كلٌّ ظنَّه بربِّه، ومن أحْسَنَ الظنَّ فليُحْسِنِ العمل، ولْيَتَجافَ عن التقصيرِ والخلل.
إنها سوقٌ عامرةٌ لا يضاربُ فيها إلا رابح؛ فرغمَ أنفُ من قُوِّضَت خيامُهَا فلم يغنمْ من غنائمها (رغمَ أنفُ من أدركه رمضانُ فلمْ يُغفَرْ له فأبعده الله).
في مواسمِ التفحاتِ يُمضي الموَفَّقون أوقاتَهُم في خمائلِ المكرُمات، وقدْ آبتْ لهم قلوبٌ شوارِد، وتعلَّقتْ قلوبُهم بالمساجِد، واكتظَّتِ المساجدُ بالقارئِ والداعي والذاكرِ والساجد، تُطاوِعُهم إلى الحقِّ نفوسُهم، وتلينُ لكلامِ ربهم أفئدتُهم.
يعيشُ المسلمون في هذه الأيامِ والليالي بين تخليةِ الصيام، وتحليةِ القيام، يُطهِّرون نفوسَهم من حظوظِها الآثمةِ في النهارِ بالصيام؛ لتتلقَّى آياتِ اللهِ في الليل بقلبٍ غيرِ عَمِيّ..
أيها الصائمون: أَتَسْتَشْعِرُونَ - تقبلَ اللهُ منكم-أنكُمْ في عملٍ عظيمِ القدرِ عندَ الله؟ في عبادةٍ جامعةٍ للفضائل، ناهيَةٍ عنِ الرذائل: عبادةِ التقوى والصبرِ والمراقبة، عبادةٍ شحَّاذةٍ للتفكرِ في عظاتٍ وعِبَرٍ لا حصْرَ لها؟ أَتَسْتشعِرُون في صيامِكم أنكم تُخَلِّصُون النفوسَ مِنْ أَدْرانِها، والأفئدةَ منْ عِلَلِها؟ وأَنَّما أنتم في عبادةٍ من أجلِّ أعمالِ البرّ، ومن أوجبِ ما يُتَقَرَّبُ به في هذا الشهر؟!
هلْ تتذَكَّرون وأنتمْ في شديدِ الحرّ وطولِ ساعاتِ الصيام - ثبَّتَ اللهُ أجورَكم - أنكم على إِرْثٍ عظيم ومسلكٍ كريم لمن كانَ قبلَكم من المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
أجل.. فما الصيامُ إلا دأْبُ الصالحين، وشِعارُ المتقين، ودِثارُ الصالحين، يجازي اللهُ أهلَهُ جزاءً بغيرِ حساب؛ ففي الصحيحَينِ عن أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ). وفي روايةٍ لمسلم: (كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يضاعَف، الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمِائةِ ضعف، قال الله عز وجلّ: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يَدَعُ شهوتَهُ وطعامَه من أجلي).
ولذا كانَ الجزاءُ من جِنسِ العمل؛ فمَن قام بهذه الفريضةِ وأداها كما أمرُ الله سبحانه كان من المدعُوِّين إلى الجنةِ من بابِ الرِّيَّان يومَ الدين، يقولُ المصطفى - صلواتُ ربي وسلامُه عليه-: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) متَّفقٌ عليه.
المسلمُ يتَّخِذُ هذا الصومَ جُنةً من نزغاتِ الشيطانِ الرجيم، ودعواتِ النفسِ الأمارةِ بالسوء، وانتصارًا على الهوى الصادِّ عن الحقّ، ولا يكونُ يومُ صومهِ ويومُ فطرهِ سواءً؛ بل هو في حذرٍ أن يُنتقَصَ صومُه، لا يجهلُ ولا يصخب، بل يبادرُ بالإحسانِ طلبًا لعظيمِ الرُّتَب، فإِنْ بادره ذو لغوٍ بسبٍّ أو قتالٍ بادر بالإعلان: إني صائم.. إني صائم..
كذلكم فليكنٍ الصيام، جُنّةً عن الآثام، وترفُّعا عن قبيحِ الفِعالِ وسيِّء الكلام؛ لأن الصيام مدرسةٌ تربي الروح، وتقوّي الإرادة، ولين يكون الصيامُ كذلكم حتى يخشعَ القلبُ لخالقِه، وتستكينَ الجوارحُ لربِّها، ومن كان كذلك كان حقيقا بالمغفرةِ الموعودة على لسانِ الصادقِ المصدوقِ صلى الله عليه وسلم في قوله: (من صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدمَ من ذنبه) متفَقٌ عليه.
ولن ينالَ اللهَ تعالى نفعٌ بإمساكِ عباده عن الطعامِ والشراب، وليس للهِ حاجةٌ في إعناتِ عبادِه، وهو القائل - سبحانه - في آيات الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ولكن ينالُه التقوى منهم.
أمّا من اتخذوا الصيامَ عادةً اعتادوها، لا يفهمون منه إلا جوعًا مقعِدًا عن العمل، وعطَشًا مُنهِكًا للجسد؛ فهؤلاءِ همُ المهازيلُ، تَجِدونَهم حال صيامِهم أتعسَ الناسِ نُفُوسا، وأقربَهُمْ عُدْوانا، وأشَدَّهم اضطرابا، لم يستحضروا في عبادتهم حقّا نارًا ولا جّنَّة، ولم يكنِ الصيامُ لهم وِقايةً ولا جُنَّة، فربما صاموا عن الحلالِ في أصلِه، ووقعُوا في الحرامِ فعلِه وقولِه، وهؤلاءِ وأمثالُهم من عناهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) أخرجه البخاريُّ في صحيحِه.
ليسَ للهِ حاجةٌ فيمن أصبح صائما عن الطعامِ والشرابِ وهو يكنِزُ في صدره السخائم، ويحمِلُ في قلبِهِ الأضْغَان، وليس لله حاجةٌ فيمن أمسى مسارعا إلى سوءِ الظنّ، وقولِ الزور، وشهادةِ الزور، والجهلِ واللغو، وأكل الحرام، أو أطلَقَ سمعَهُ وبَصَرَهُ في منبِتاتِ النفاق، وداعياتِ الفحشاءِ والمنكر؛ ليس لله حاجة في جميعِ ألئك أن يَدَعُوا الطعامَ والشراب.
أقولُ هذا القول، وأصلِّي وأسلمُ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ المرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين. أما بعد: فمن استبقَ مرضاةَ ربِّه ومظانَّها، وتلهَّفَتْ نفسُه إلى دارِ الأشواق، وابتغى العِتقَ من دارٍ أُعِدَّتْ لأهل الكفرِ والنفاقِ والشقاق لن يكونَ لديه متَّسَعٌ من الوقت في أيامٍ معدودات لأن يلهوَ ويعبَث، ويُضِيعَ الفُرَص، ويزْهَدَ في المغانم.
من كانَ لسانُ حاله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، أفيُمضي من يومه جزءًا للباطلِ وذويه؟! من خلالِ شاشاتٍ تَذْهَبُ بخيرِ ما أُودِعَ في النفسِ في النهار، يَظَلُّ أمَامَها مع أولادِه وأهلِه ليجدوا أَنفُسَهُم عما قريبٍ مُسْتَحْسِنَةً ما كانت تستقبحُه، عارفةً ما كانت تستنكِرُه، وعلى أقلِّ الأحوال يتلقى فيها ما يشغلهُ عن الفاضل، ويُلهِي قلبَه ويصدُّ نفسه عنِ الصالح الكامل.. فأَيْنَ الأمانةُ وأينَ الديانةُ يا هذا؟
أيها المؤمنون: امتثلوا قولَ ربِّكُمْ سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فعظّموا ما افترضَ اللهُ عليكم، وحذارِ من المضيِّ في الأكلِ والشربِ وقد تحقَّقَ طُلُوعُ الفجر، واذكُروا أنَّ الصائمَ قد نُهِيَ عن الأكل والشربِ وما في معناهما حتى تغربَ الشمس، كحَقْنِ الدم في الجسم، والإبَرِ المغَذِّية، ولَصْقَاتِ النيكوتين، ولا يدخل في ذلك ما ليس مغذيا مما هو ليس بمعنى الأكل والشرب، كقطرةِ العين، وقطرةِ الأنف، وبخاخِ الربو، والإبرِ العلاجيةِ لمرضى السكر، ونحوِ ذلك، كما أن من المفطراتِ الجماعَ والاستمناء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (يَدَعُ طعامَه وشَرَابَهُ وشهوتَه من أجلي)، ومن المفطراتِ القيءُ عمدًا، أما من ذرعه القيء فصيامه صحيح ولا قضاء عليه، ومن أكلَ أو شرِبَ ناسيًا فليتمَّ صومَهُ ولا قضاءَ عليه؛ فإنما أطعمه اللهُ وسقاه.
أيها المؤمنون: ومن حِكَمِ الصيام العظيمة: الإحساسُ بجوع المعدومينَ والمساكين، فمدِّ يدِ البذلِ والمعروف، كيف وأنتم في شهر الجود، الذي كان نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- أجودَ ما يكونُ فيه، بل كان أجودَ بالخير من الريحِ المُرسَلة.
يا مفطرون على موائدِ أنعُمٍ مِن كلِّ صنفٍ مشتهى قد طابا
انصروا إخوانكم المضطهدين ببذلكم ينصرْكمُ الله، ومن إخوانِكم وممَّنْ حولَكم محاويجُ وغارِمون متعفِّفون، فآتوهم من مال اللهِ الذي آتاكم.
ألا فاتقوا اللهَ رحمكم الله،واذكروا دعاءً عظيما كريما، يأسَفُ حال الدعاءِ به الداعون، وتُبَحُّ به حناجرُ المصلين، إنه دعاءٌ تَضِجُّ به المحاريبُ ختامَ شهرِ رمضان، إنه قولهم: اللهم اجعل شهر رمضانَ شاهدًا لنا عند قيامِ الأشهاد.. هل تدبّرتُم هذا الدعاءَ وأسرارَهُ ومضامينَه؟! هل تأملتم هذه الشهادة؟ وأيانَ تكون؟ وهل نظرتم إلى حال الشاهد؟. إنها شهادةُ ثقةٍ غيرِ متَّهَم، شهادةِ شهرٍ جعله الله شهيدًا على أفعال العباد يومَ يقومُ الأشهاد، يشهدُ عند عالِمِ السرِّ والنجوى - سبحانه وبحمدِه -؛ فمن ذا الطاعنُ بشهادته ساعةَ يشهدُ ببوارِ تجارتِه؟!
هانحنُ أولاءِ أولَ شهرِنا، فلْنُشْهِدْه على الصالحات الخالصات، والمسابقة في الخيرات؛ فمن لمْ يحْيِهِ الكرَم، ولم يُخْجِلْهُ الإمهال، ولمْ يُدْنِهِ التلطُّف، ولمْ تبعثْهُ الـمُهْلة، ولم يبادرِ الفرصة؛ فلا يصحُّ في الأذهانِ إليه من حيلة، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله..
ألا وابتغوا عاليَ الدرجات، وعظيمَ الهبات، بكثرة الصلاةِ والسلامِ على من ختمَ اللهُ ببعثته الرسالات، فاللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد بن عبدالله الهادي المبشِّرِ النذير، وارضَ اللهم عن صحبته الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحبِ الأخيار، وعن الآلِ الأطهار، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما اختلفَ الليلُ والنهار.