بركات القرآن الكريم
12/9/1437
الْحَمْدُ لِلهِ الْكَرِيمِ المَنَّانِ؛ هَدَى عِبَادَهُ إِلَى رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الْقُرْآنَ {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ يُعْطِي جَزِيلًا، وَيَجْبُرُ كَسِيرًا، وَيُغِيثُ مَلْهُوفًا، وَيُسْعِفُ مَهْمُومًا، وَيَقْبَلُ تَائِبًا، وَيُجِيبُ دَاعِيًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَوْ عَرَفَهُ الْعِبَادُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لمَا سَأَلُوا غَيْرَهُ، وَلَا طَرَقُوا بَابًا غَيْرَ بَابِهِ، وَلَا أَمَّلُوا وَرَجَوْا سِوَاهُ، يُلْهِمُ عِبَادَهُ مَسْأَلَتَهُ ثُمَّ يُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوا، فَسُؤَالُهُمْ بِإِلْهَامِهِ، وَإِجَابَتُهُمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ جَوَادٍ كَرِيمٍ، بَرٍّ رَحِيمٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ زَرَعَ فِي أَصْحَابِهِ مَحَبَّةَ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمَهُ، وَلُزُومَ تِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ، وَتَطْبِيقَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَكَانُوا يَتَخَلَّقُونَ بِهِ، وَيُكْثِرُونَ تِلَاوَتَهُ، وَيَتَهَجَّدُونَ بِآيَاتِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ فِي شَهْرِ التَّقْوَى وَالْقُرْآنِ، فَصُونُوا الصِّيَامَ عَنِ اللَّغْوِ وَالْآثَامِ، وَحَافِظُوا عَلَى الْقِيَامِ وَالْقُرْآنِ، وَإِيَّاكُمْ وَمَجَالِسَ الزُّورِ وَشَاشَاتِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّ {السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ بَرَكَةِ رَمَضَانَ الِالْتِفَاتُ فِيهِ إِلَى الْقُرْآنِ، وَكَثْرَةُ تِلَاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ. وَالْقُرْآنُ كِتَابٌ مُبَارَكٌ، وُصِفَ بِالْبَرَكَةِ فِي آيَاتٍ عِدَّةٍ {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155] وَفِي ثَالِثَةٍ: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وَفِي رَابِعَةٍ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وَالْبَرَكَةُ هِيَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ المُتَزَايِدُ عَلَى الدَّوَامِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ خَيْرَ الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مُتَزَايِدٌ لَا يَنْقُصُ، وَدَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ. وَبَرَكَتُهُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ المَذْكُورَةِ لَمْ تَخُصَّ بَرَكَةَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، بَلْ عَمَّمَتْ بَرَكَتَهُ حَتَّى شَمِلَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
فَالْقُرْآنُ مُبَارَكٌ عَلَى قَارِئِهِ وَسَامِعِهِ وَمُتَدَبِّرِهِ؛ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى أَضْعَافٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَيَتْلُو سُورَةً قَصِيرَةً وَيَحْصُدُ أُجُورًا عَظِيمَةً.
وَالْقُرْآنُ بَرَكَةٌ عَلَى مُتَدَبِّرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لِقَلْبِهِ مِنِ انْتِفَاعٍ بِالْقُرْآنِ، وَاتِّعَاظٍ بِهِ، وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ مَا يُؤْتَى مِنَ الْبَصِيرَةِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَحُجَّةُ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فَمُتَدَبِّرُهُ سَيُهْدَى لِأَقْوَمِ الْأُمُورِ وَأَحْسَنِهَا فِي أَفْكَارِهِ وَآرَائِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
وَالْقُرْآنُ بَرَكَةٌ عَلَى عَقْلِ حَافِظِهِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حِفْظِ مُفْرَدَاتِ أَيِّ لُغَةٍ كَانَتْ يُوَسِّعُ الذَّاكِرَةَ، وَيُقَوِّي الِاسْتِحْضَارَ، فَكَيْفَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَهِيَ أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَعْلَاهَا؟ ثُمَّ كَيْفَ بِحَافِظِ لُبِّهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَهْلُ الْقُرْآنِ يُمَتَّعُونَ بِعُقُولِهِمْ وَلَوْ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ جَاوَزُوا التِّسْعِينَ وَعُقُولُهُمْ مَعَهُمْ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «كَانَ يُقَالُ: إِنَّ أَبْقَى النَّاسِ عُقُولًا قُرَّاءُ الْقُرْآنِ»، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: «مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ مُتِّعَ بِعَقْلِهِ».
وَالْقُرْآنُ بَرَكَةٌ عَلَى بَيْتِ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفِرُّ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي يُسْمَعُ فِيهَا الْقُرْآنُ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «...إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَنِ يَشْكُونَ الْهُمُومَ وَالْغُمُومَ، وَيُعَانُونَ مِنْ ضِيقِ الصُّدُورِ وَالدُّورِ، وَمِنَ المَشَاكِلِ الْأُسَرِيَّةِ، وَمِنْ أَمْرَاضِ المَسِّ وَالسِّحْرِ وَالْعَيْنِ، وَمِنْ تَسَلُّطِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَلَيْهِمْ، فَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ وِقَايَةٌ لِلْبُيُوتِ الَّتِي يُقْرَأُ فِيهَا مِنْ تَسَلُّطِهِمْ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «الْبَيْتُ إِذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ، ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَتَنَكَّبَتْ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَحَضَرَهُ الشَّيَاطِينُ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَهُوَ كَذَلِكَ شِفَاءٌ لِمَنْ أُصِيبُوا بِشَرِّ الشَّيَاطِينِ وَمَسِّهِمْ وَضُرِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ وِقَاءٌ فَهُوَ شِفَاءٌ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وَشِفَاؤُهُ عَامٌّ لِأَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ، وَلِجَمِيعِ الْأَسْقَامِ وَالْأَدْوَاءِ، وَرَقَى الصَّحَابِيُّ لَدِيغًا بِالْفَاتِحَةِ فَبَرِئَ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنِ هَجْرُ الِاسْتِشْفَاءِ بِهِ.
وَكَمْ مِنْ شُبْهَةٍ عَمِلَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا عَمَلَهَا فَوَجَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُزِيلُهَا! وَكَمْ مِنْ خَطَرَاتٍ وَوَسَاوِسَ وَشُكُوكٍ اعْتَرَتْ قُلُوبَ أَصْحَابِهَا، فَوَجَدُوا فِي الْقُرْآنِ مَا يَدْحَضُهَا وَيُبْعِدُهَا، وَيُثْبِتُ إِيمَانَهُمْ وَيَقِينَهُمْ! {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
وَالْقُرْآنُ بَرَكَةٌ عَلَى الْمَجَالِسِ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا، فَيَسْتَجْلِبُ لِأَصْحَابِهَا كُلَّ خَيْرٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ عَجَائِبِ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مُبَارَكٌ عَلَى الصُّحُفِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا، فَتَنْقَلِبُ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ صُحُفٍ لَا يُؤْبَهُ بِهَا وَلَا تُحْتَرَمُ إِلَى صُحُفٍ يَجِبُ صِيَانَتُهَا وَرَفْعُهَا وَتَوْقِيرُهَا؛ لِمَا حَوَتْهُ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ مَكَانَةُ الْوَرَقِ الَّذِي حَوَاهُ فَمَا مَكَانَةُ الصَّدْرِ الَّذِي حَفِظَهُ وَوَعَاهُ، وَسَلَكَ طَرِيقَهُ وَانْتَفَعَ بِهُدَاهُ؟!
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ عُلُومَهُ وَمَعَارِفَهُ لَا تَنْضَبُ، وَلَا تَتَوَقَّفُ فَرَائِدُهُ وَفَوَائِدُهُ، وَلَا زَالَ الْعُلَمَاءُ مُنْذُ تَنَزُّلِهِ إِلَى الْيَوْمِ وَخِلَالَ أَرْبَعَةَ عَشْرَ قَرْنًا يَنْهَلُونَ مِنْهُ، وَيَغْتَرِفُونَ مِنْ بَحْرِ فَوَائِدِهِ، فَمَا أَسِنَ وَلَا سَكَنَ، بَلْ تَزْدَادُ فَوَائِدُهُ وَمَعَارِفُهُ مَعَ الِازْدِيَادِ فِي تَدَبُّرِهِ وَتَعَلُّمِهِ، حَتَّى بَلَغَتِ التَّفَاسِيرُ عَدَدًا وَكَمًّا تَفْنَى الْأَعْمَارُ دُونَ جَمْعِهَا، فَضْلًا عَنْ عَرْضِهَا وَقِرَاءَتِهَا كُلِّهَا، وَلَا يُغْنِي بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكُلُّ كِتَابٍ مِنْهَا فِيهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ. وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يُدْرِكُونَ ذَلِكَ تَمَامِ الْإِدْرَاكِ.
بَلْ كَانَ لِلْقُرْآنِ مَدْخَلٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ الَّتِي دَلَّتْ آيَاتُهُ عَلَيْهَا صَرَاحَةً، أَوْ إِشَارَةً وَإِيمَاءً، حَتَّى قَادَ كَثِيرًا مِنْ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنْ إِعْجَازٍ عِلْمِيٍّ فِي عُلُومِهِمُ الَّتِي يُتْقِنُونَهَا.
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ وَظِيفَةَ مُعَلِّمِهِ وَمُحَفِّظِهِ أَشْرَفُ الْوَظَائِفِ وَأَعْلَاهَا؛ لِأَنَّهَا اشْتِغَالٌ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْ كَلَامِ الْخَلْقِ، وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَالِاشْتِغَالُ بِتَفْسِيرِهِ اشْتِغَالٌ بِأَشْرَفِ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا، وَتَعُمُّ صَاحِبَهُ الْبَرَكَةُ؛ وَكَانَ بَعْضُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ يَقُولُ: اشْتَغَلْنَا بِالْقُرْآنِ فَغَمَرَتْنَا الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ فِي الدُّنْيَا.
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ تَيْسِيرُ الْعَسِيرِ بِهِ، وَحُصُولُ المَطْلُوبِ، وَالْوُصُولُ إِلَى المَرْغُوبِ، وَدَفْعُ المَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى هَمَّهُ، كَفَاهُ اللهُ تَعَالَى مَا أَهَمَّهُ، قَالَ عَبَّاسٌ الْكِنَانِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ المَقْدِسِيِّ: أَوْصَانِي وَقْتَ سَفَرِي، فَقَالَ: أَكْثِرْ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَا تَتْرُكْهُ؛ فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ لَكَ الَّذِي تَطْلُبُهُ عَلَى قَدْرِ مَا تَقْرَأُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ ذَلِكَ وَجَرَّبْتُهُ كَثِيرًا، فَكُنْتُ إِذَا قَرَأْتُ كَثِيرًا تَيَسَّرَ لِي مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكِتَابَتِهِ الْكَثِيرُ، وَإِذَا لَمْ أَقْرَأْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لِي.
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يَحَاجُّ عَنْ حَامِلِهِ وَقَارِئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ شَفِيعًا لَهُ وَهُوَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى شَفَاعَتِهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ...» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يَرْقَى بِصَاحِبِهِ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فَحَقَّ عَلَيْنَا أَنْ نُولِيَ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى عِنَايَتَنَا، وَأَنْ نُفَرِّغَ لَهُ أَوْقَاتَنَا، وَأَنْ نَعْمُرَ بِهِ بُيُوتَنَا، وَأَنْ نَمْلَأَ بِعِظَاتِهِ قُلُوبَنَا، وَأَنْ نَشْرَحَ بِآيَاتِهِ صُدُورَنَا، وَأَنْ نُنِيرَ بِبَرَاهِينِهِ عُقُولَنَا، وَأَنْ نُعَلِّمَهُ نِسَاءَنَا وَأَوْلَادَنَا؛ فَلَا شَيْءَ يُنِيرُ لَهُمْ طَرِيقَ حَيَاتِهِمْ مِثْلُ الْقُرْآنِ، وَلَا ضَمَانَ لِمُسْتَقْبَلِهِمْ إِلَّا بِالْقُرْآنِ؛ فَهُوَ عِزُّهُمْ وَرِفْعَتُهُمْ وَغِنَاهُمْ وَقُوَّتُهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ رَمَضَانَ حَظَّكُمْ، وَاعْمُرُوا بِالْقُرْآنِ وَقْتَكُمْ، وَاجْعَلُوا قِرَاءَتَهُ وَحِفْظَهُ وَتَدَبُّرَهُ شُغْلَكُمْ؛ فَمَنْ فُتِحَ لَهُ بَابُ الْقُرْآنِ وَجَدَ حَلَاوَتَهُ، وَمَنْ وَجَدَ حَلَاوَتَهُ فَلَنْ يُفَارِقَهُ.
أَيُّهَا النَّاسُ: هَذِهِ الْأَيَّامُ المُبَارَكَةُ فُرْصَةٌ سَانِحَةٌ لِمُصَاحَبَةِ الْقُرْآنِ وَمُلَازَمَتِهِ حَتَّى يَكُونَ الْأَنِيسَ وَالرَّفِيقَ؛ فَإِنَّنَا أَحْوَجُ مَا نَكُونُ لِلْقُرْآنِ فِي زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ المُضِلَّةُ الَّتِي تَتَخَطَّفُ النَّاسَ فَتَصْرِفُهُمْ عَنْ دِينِهِمْ.
إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ هِيَ أَيَّامُ رِيَاضَةِ النُّفُوسِ بِالْقُرْآنِ، وَتَرْوِيضِ الْقُلُوبِ بِآيَاتِهِ، فَلَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمْ خَيْرَهَا وَبَرَكَتَهَا، فَلَعَلَّ أَبْوَابَ الْقُرْآنِ تَتَفَتَّحُ لَنَا، فَنَعِيشُ بَقِيَّةَ حَيَاتِنَا نَتَلَذَّذُ بِآيَاتِهِ، فَنَنَالُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَفَوْزَ الْآخِرَةِ، وَمَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ طَاعَةٍ؛ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى مَطْلُوبَهُ مِنْهَا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
الملفات المرفقة
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
(44.0 كيلوبايت)
تقديرا لمجهود صاحب البوست او المشاركه فانه لا يمكن مشاهدة الروابط إلا بعد التعليق على البوست In appreciation of the efforts of the owner of the post or participation, the links cannot be viewed until after responding to the post or participation
(96.5 كيلوبايت)