مسألة الإقرار بمشارك في الميراث
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
قوله: (وإن أقرَّ به بعض الورثة ولم يثبت نسبه بشهادة عدلين منهم أو من غيرهم ثبت نسبه من مقِرّ فقط...) إلى آخره[1].
قال في «المقنع»: «وإن أقرَّ بعضُهم لم يثبت نسبه إلا أن يشهد منهم عدلان أنه وُلِدَ على فراشه، أو أن الميت أقرَّ به، وعلى المُقِرّ أن يدفع إليه فضل ما في يده عن ميراثه»[2].
وقال في «الفروع»: «وإن شهد عدلان منهم، أو من غيرهم أنه ولده، أو وُلِدَ على فراشه، أو أنه أقرَّ به ثبت وإلا فلا...
إلى أن قال: وفي «الهداية» إن أقرَّ بعضُهم لم يثبت نسبه في المشهور من المذهب[3]، وسأله أبو طالب عمَّن تزوَّج سرّاً فأراد سفراً فقال لبعض قرابته: لي في السر امرأة وولد، ثم سافر فمات فأتت امرأته بصبيٍّ فقالت: [إنها امرأته و] إنه ابنه، ولها شاهدان غير عدلين، فقال: إن كان من أخبره ثقة لحقه بقَافة أو إقرار بعض الورثة مثل ما أقر ابن زَمْعَة، وإن لم يكن قال لقرابته ولا وصي لم يُقبل إلا بعدلين، ومراده: أقرَّ بعضهم ولم ينكره غيره، نقله أبو طالب.
ونقل الأثرم: إن شهد اثنان بأخ ثبت نسبه على من نفاه، وإن أقر به واحد فإنه أخ للجميع إذا لم يكن من يدفع ذلك؛ لأنه عليه السلام قال في ابن [أَمَة] زَمْعَة: (الولد للفراش)[4]، ولم يدفع دعوى عبد بن زَمْعَة أحد من الورثة، ومتى لم يثبت نسبه أخذ الفاضل بيد المقر إن فضل شيء أو كله إن سقط به»[5].
وقال ابن رشد: «ومن مسائل ثبوت النسب الموجب للميراث: اختلافهم في من ترك ابنين وأقر أحدهم بأخٍ ثالث وأنكر الثاني:
فقال مالك[6] وأبو حنيفة[7]: يجب عليه أن يُعطيه حقه من الميراث يعنون المقر ولا يثبت بقوله نسبه.
وقال الشافعي[8]: لا يثبت النسب ولا يجب على المقِرّ أن يعطيه من الميراث شيئاً.
واختلف مالك وأبو حنيفة في القدرِ الذي يجب على الأخ المُقر:
فقال مالك[9]: يجب عليه ما كان يجب عليه لو أقرّ الأخ الثاني وثبت النسب.
وقال أبو حنيفة[10]: يجب عليه أن يُعطيه نصف ما بيده، وكذلك الحكم عند مالك[11] وأبي حنيفة[12] في من ترك ابناً واحداً فأقر بأخ له آخر، أعني: أنه لا يثبت النسب ويجب الميراث.
وأما الشافعي فعنه في هذه المسألة قولان:
أحدهما[13]: أنه لا يثبت النسب ولا يجب الميراث.
والثاني[14]: يثبت النسب ويجب الميراث، وهو الذي عليه تناظر الشافعية في المسائل الطَّبْلُولِيَّة[15] ويجعلها مسألة عامة، وهو أن كل من يحوز المال يثبت النسب بإقراره، وإن كان واحدا ًأخاً أو غير ذلك.
وعُمدة الشافعية في المسألة الأولى وفي أحد قوليه في هذه المسألة - أعني: القول الغير المشهور -: أن النسب لا يثبت إلا بشاهدي عدل، وحيث لا يثبت فلا ميراث؛ لأن النسب أصل، والميراث فرع، وإذا لم يوجد الأصل لم يوجد الفرع.
وعُمْدة مالك وأبي حنيفة: أن ثبوت النسب هو حقٌّ متعدٍّ إلى الأخ المُنكر فلا يثبت عليه إلا بشاهدين عدلين.
وأما حظه من الميراث الذي بيد المقر فإقراره فيه عامل؛ لأنه حق أقر به على نفسه، والحق أن القضاء عليه لا يصح من الحاكم إلا بعد ثبوت النسب، وأنه لا يجوز له بين الله تعالى وبين نفسه أن يمنع من يعرف أنه شريكه في الميراث حظه منه.
وأما عُمْدة الشافعية في إثباتهم النسب بإقرار الواحد الذي يحوز له الميراث فالسماع والقياس.
أما السماع: فحديث مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة المتفق على صحته قالت: كان عتبة بن أبي وقاصٍ عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زَمْعَة منِّي فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي، قد كان عهد إليَّ فيه، فقام إليه عبدُ بن زَمْعَة فقال: أخي، وابن وليدة أبي، وُلِدَ على فراشه، فتساوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعدٌ: يا رسول الله، ابن أخي، قد كان عهد إليَّ فيه، فقام إليه عبدُ بن زَمْعة، فقال: أخي، وابن وليدة أبي، وُلِد على فراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو لك يا عبدُ بن زَمْعَة)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، ثم قال لسودة بنت زَمْعَة: (احتجبي منه)، لما رأى من شَبَهه بعُتبة بن أبي وقاص، قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل[16].
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدِ بن زَمْعَة بأخيه، وأثبت نسبه بإقراره إذا لم يكن هنالك وراث منازع له.
وأما أكثر الفقهاء فقد أشكل عليهم معنى هذا الحديث؛ لخروجه عندهم عن الأصل المُجمع عليه في إثباته النسب، ولهم في ذلك تأويلات، وذلك: أن ظاهر هذا الحديث أنه أثبت نسبه بإقرار أخيه به، والأصل: ألّا يثبت نسبه إلا بشاهدي عدل؛ ولذلك تأوَّل الناسُ في ذلك تأويلات: فقالت طائفة: إنه إنما أثبت نسبه عليه الصلاة والسلام بقول أخيه؛ لأنه يمكن أن يكون قد علم أن تلك الأَمَة كان يطؤها زَمْعَة بن قيس، وأنها كانت فراشاً له.
قالوا: ومما يُؤكد ذلك: أنه كان صهره وسودة بنت زَمْعَة كانت زوجته عليه الصلاة والسلام، فيمكن ألّا يخفى عليه أمرها.
وهذا قوله الآخر - أعني: الذي لا يثبت فيه النسب - والذين قالوا بهذا التأويل قالوا: إنما أمر سودة بالحجبة احتياطاً لشُبهة الشَّبَه، لا أن ذلك كان واجباً، وقال لمكان هذا بعض الشافعية: إن للزوج أن يحجب الأخت عن أخيها.
وقالت طائفة: أمْرُه بالاحتجاب لسودة دليلٌ على أنه لم يلحق نسبه بقول عتبة ولا بعلمه بالفراش.
وافترق هؤلاء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: (هو لك)، فقالت طائفة: إنما أراد: هو عبدك؛ إذ كان ابن أمة أبيك، وهذا غير ظاهر؛ لتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه في ذلك بقوله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر).
وقال الطحاوي[17]: إنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (هو لك يا عبد بن زَمْعَة): أي[18] يدك عليه بمنزلة ما هو يد اللاقط على اللقطة.
وهذه التعليلات[19] تضعف لتعليله عليه الصلاة والسلام حكمه بأن قال: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)[20].
وأما المعنى الذي يعتمده الشافعية في هذا المذهب: فهو أن إقرار من يحوز الميراث، هو إقرار خلافة، أي: إقرار من حاز خلافة الميت، وعند الغير: أنه إقرار شهادة لا إقرار خلافة، يريد أن الإقرار الذي كان للميت انتقل إلى هذا الذي حاز ميراثه»[21].
وقال البخاري: «(باب: من ادَّعى أخاً أو ابن أخ).
وذكر حديث عائشة في قصة ابن وليدة زَمْعَة[22]».
وقال في «الاختيارات»: «ولو أقرَّ واحد من الورثة بالفراش أو النسب والباقون لا صدقوه ولا كذبوه ثبت [الولاء و] النسب، وهو ظاهر قول الإمام أحمد[23]، وظاهر الحديث؛ فإن الإمام أحمد قال: إذا أقرَّ وحده ولم يكن أحد يدفع قوله، وعلى هذا: فلو رد هذا النسب من له فيه حق قُبِلَ منه وارثا كان أو غير وارث على ظاهر كلامه»[24].
[1] الروض المربع ص373.
[2] المقنع 2/ 456 - 457.
[3] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 18/ 341.
[4] البخاري (2053)، ومسلم (1457)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] الفروع 5/ 71 - 73.
[6] الشرح الصغير 2/ 197، وحاشية الدسوقي 3/ 417.
[7] حاشية ابن عابدين 5/ 654.
[8] تحفة المحتاج 5/ 408، ونهاية المحتاج 5/ 115.
[9] الشرح الصغير 2/ 197، وحاشية الدسوقي 3/ 417.
[10] حاشية ابن عابدين 5/ 654.
[11] الشرح الصغير 2/ 197، وحاشية الدسوقي 3/ 417.
[12] حاشية ابن عابدين 5/ 654.
[13] المجموع 23/ 322.
[14] تحفة المحتاج 5/ 406، ونهاية المحتاج 5/ 114.
[15] في الأصل: «الطيلولية»، والمثبت من بداية المجتهد.
[16] البخاري (6749).
[17] شرح معاني الآثار 3/ 115.
[18] في الأصل: «أن»، والمثبت من بداية المجتهد.
[19] كذا في الأصل، وفي بداية المجتهد: «التأويلات».
[20] البخاري (6749)، ومسلم (1457)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[21] بداية المجتهد 2/ 328 - 330.
[22] البخاري (6765).
[23] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 18/ 354، وشرح منتهى الإرادات 6/ 658.
[24] الاختيارات الفقهية ص198.