بسم الله الرحمن الرحيم
وعظ القلوب بكلام علام الغيوب
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لا بد أن تكون الموعظة مصاحبة للقلب الذي يتقلب بين حين وآخر،
ولا بد للمؤمن أن يوطن نفسه على حضور مجالس الوعظ
ففي ذلك ثبات له بإذن الله
وإغاظة للشيطان الذي هوقريب من الواحد بعيد عن الجماعة،
وقلوب العباد بين إصبعينمن أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
( اللهم يا مقلب القلوب ,ثبت قلبي على دينك )
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن على نفسه
فكيف بنا نحن خاصة مع تلاطم أمواج الفتن في هذا الزمان ،
وإن القرآن الكريم من أكبرالمواعظ الذي توعظ بها القلوب
كما قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ
وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }
[ يونس : 57 ]
ولقد كان رسول الله صلى الله عليهوسلم يجلس مع أصحابه
ليعظهم ويذكّرهم ويرغّبهم ويرهّبهم بهذا القرآن العظيم ،
قال أبو هريرة رضي الله عنه :
( قلنا يا رسول الله ،
ما لنا إذا كنا عندك رقّت قلوبنا , وزهدنا في الدنيا , وكنا من أهل الآخرة ،
فإذا خرجنا من عندك وآنسنا أهلنا , وشممنا وأولادنا أنكرنا أنفسنا ,
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي
كنتم على حالكم ذلكم لزارتكم الملائكة في بيوتكم )
والقرآن يرقق القلوب بل يرقق الحجر،
قال تعالى :
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَايَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ }
[ البقرة : 74 ]
وقال تعالى :
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَاالْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِاللَّهِ }
[ الحشر : 21 ]
يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن وفضله وجلاله ،
وأنه لو خوطب به صم الجباللتصدّعت من خشية الله .
فهذه حال الجبال وهي الحجارة الصلبة ،
وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال الله ربّها وعظمته وخشيته .
فيا عجباً من مضغة لحم كانت أقسى من هذه الجبال
تخاف من سطوة الجبار وبطشه، فلا ترعوي ولا ترتدع ،
وتسمع آيات الله تتلى عليها فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب ،
فليس بمستنكر على الله عزوجل ، ولا يخالف حكمته
أن يخلق لها ناراً تذيبها إذا لم تلن بكلامه وزواجره ومواعظه ،
فمن لم يلن قلبه لله فيهذه الدار ،
ولم ينب إليه ولم يذبهبحبه والبكاء من خشيته ، فليتمتع قليلاً ،
فإن أمامه الملين الأعظم ،وسيردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم .
فيا أيها الغافل عن تدبّرالقرآن ! إلى متى هذه الغفلة ؟
قل لي وتكلم ، حنانيك بادربصالح الأعمال قبل أن تندم .
نشكو إلى الله القلـوب التـي قسـت وران علـيـهـا كـســب تـلــك الـمـآثـم
من خشية المولى هوى الجبل الذي بـالـطـور ولانـــت قـســوة الأحـجــار
أولــم يـئــن وقـــت الـخـشـوع فـــلا تــغــرن الـحـيــاة ســــوى مــغـــرار
ورقة القلب تنشأ عن الذكروالقرآن
لأن ذلك يوجب خشوع القلبوصلاحه ورقته ويذهب بالغفلة عنه
قال الله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
[ الأنفال : 2 ]
وقال تعالى :
{ وَبَشِّرِالْمُخ ْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَالصَّابِرِينَ عَلَىمَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }
[ الحج : 34 – 35 ]
وقال تعالى :
{ أَلَمْ يَأْنِلِلَّذِين َ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَالْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ
فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
[ الحديد : 16 ]
وقال تعالى :
{ اللَّهُ نَزَّلَأَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُجُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
[ الزمر : 23 ]
بذكر الله ترتاح القلوب ودنيانا بذكـراه تطيـب
ولكن لم يتعظ بهذه الموعظةإلا القليل من الناس
الذين رقت قلوبهم للقرآن واستجابوا لنداء الرحمن
كما أخبر تعالى بقوله :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }
[ ق : 37 ]
قال خبّاب بن الأرت رحمه الله لرجل : تقرب إلى الله تعالى ما استطعت ،
واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه .
وقال عثمان بن عفان : من أحب القرآن أحب الله ورسوله،
فمن أحب شيئاً أكثر منذكره ،
ولا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم ،
فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم ،
كما قال بعض السلف : إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله
فانظر إلى قدر القرآن عندك.
وكان بعضهم يكثر من تلاوة القرآن ثم اشتغل عنه بغيره
فرأى في المنام قائلاً يقول له :
إن كـنـت تـزعــم حـبــي فـلـم جـفــوت كـتـابـي ؟
أما تأملت ما فيه من عبر وما فيه من لذيذ خطابي
ولم يكونوا يقرؤونه ليقال : إنهم يقرؤونه ولا يهذّونه
هذّا الشعر كما الناس يفعلون ، وإنما كانوا يتدبرون معانيه ويتأثرون بألفاظه
فيحركون به قلوبهم ويرسلون به مدامعهم يتأملون عبره ويعيشون أنداءه
ويسرحون طرف أفئدتهم في خمائله ويطلقون أكف الحب في كنوزه .
وليس الذي يجري في العين ماؤها ولـكـنـهــا روح تـســيــل فـتـقـطُــرُ
ويستحب البكاء عند تلاوةالقرآن ،
وهو صفة العارفين وشعارعباد الله الصالحين ،
قال الله تعالى في وصفا لخاشعين من عباده عند تلاوة كتابه :
{ اللَّهُ نَزَّلَأَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَرَبَّ هُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
[ الزمر : 23 ]
سمعـتـك يــا قــرآن واللـيـل غـافــل سريت تهز القلب سبحان من أسرى
فتحنـا بـك الدنـيـا فـأشـرقصبحـهـا وطفنـا ربــوع الـكـون نملـؤهـا أجــرا
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلون كتاب الله
ويتأثرون بآياته فتلينجلودهم ، وتدمع عيونهم وتخشع قلوبهم ،
فيرفعون أكفهم إلى ربهم ضارعين يسألونه قبول الأعمال
ويرجونه غفران الزلات ،ويتشوقون الى ما عنده من النعيم المقيم .
روي أن أبا بكر رضي الله عنه ابتنى مسجداً بفناء داره
فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم
وهم يتعجبون منه وينظرون إليه ، وكان رجلاً بكّاءً لا يملك دموعه إذا قرأ ..
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالناس
فبكى في قراءته حتى انقطعت قراءته وسمع نحيبه من وراء ثلاثة صفوف .
وكان عمر أيضاً إذا اجتمع الصحابة قال : يا أبا موسى ذكّرنا ربنا،
فيندفع أبو موسى يقرأ بصوته الجميل وهم يبكون .
وإنـي ليبكينـي سـمـاع كـلامـه فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا
تـلا ذكــر مــولاه فـحـنّ حنيـنـه وشـوق قلـوب العارفيـن تجـددا
وللأسف لما فسدت أمزجة كثير من المتأخرين عن سماع كلام رب العالمين ،
ظهرت التربية معوجة والفطرة منكوسة ، والأفهام سقيمة.
ولا صلاح للأفراد ولاللمجتمعات والدول إلا بالعودة إلى كتاب الله تعالى
الذي فيه الهدى والصلاحوالعز والشرف
{ لَقَدْ أَنْزَلْنَاإِلَ يْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
[ الأنبياء : 10 ]
نسأل الله الكريم
أن يجعلنا جميعا من أهلا لقرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وصلى الله وسلم
وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .