الإسلام بين حسن المعاملة وجبن المجاملة
الشيخ الحسين أشقرا
الخطبة الأولى
الحمد لله الملك القدوس السلام، المتفرد بالعظمة والبقاء والدوام... قدر الأمور فأجرها على أحسن نظام، بحكمته تتعاقب أحوالنا في الليالي والأيام... ونشهد أن لا إله إلا الله وده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين....
أيها المسلمون والمسلمات..
يعيش المسلمون ازدواجية لا يقبلها الإسلام! فهم مسلمون في العبادات، لكنهم في المعاملات [إلا من رحم الله] بعيدون عن ما نصَّ عليه القرءان الكريم، والأحاديث الصحيحة للمبعوث رحمة للعالمين مع أن المفروض والمطلوب أن ينطلق المسلمُ من محراب العبادة و الطاعة والمناجاة والذكر لله تعالى، إلى محراب الحياة وميدانها ليتعامل مع الخَلق بحسن الخُلُق، ويتبادل معهم المصالح والمنافع بدافع الرغبة في الأفضل، وليس هناك أفضلية بين بني البشر إلا بما تحمل قلوبهم من التقوى والخير ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ﴾ [الحجرات: 13] فكان من لوازم التمسك والالتزام بتعاليم الدين: حسن التعامل مع الخلق الذي يصبح عنوانا للملتزم به...وقد اشتهرت بين الناس جملة [الدين المعاملة] حتى ظَنَّ البعض بأنها حديث شريف، وإن كان معناها صحيحا، لكنها ليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير ما يؤيِّدُها حديث المفلس الذي يُسيء معاملة الناس، فيُطرحُ في النار.... وقد ينجحُ المُسلمُ في مجال العبادات من صلاة وصوم وزكاة ويُتقنها، ولكنه يَسْقُطُ في معاملة الخلق، وهذا دليل على ضُعْف في الإيمان...مما يُؤدي إلى الرسوب في امتحان يوم القيامة، يوم يَعِزُّ المرءُ أو يُهان....
"طَلَب عُمَر الْفَارُوْق مِن رَجُل أَن يَأْتِيَه بِمَن يَعْرِفه حَق الْمَعْرِفَة لِيِضمنه فِي مَسْأَلَة، فَلَمَّا جَاءَه بِالْرَّجُل ابْتَدَرَه الْفَارُوْق سَائِلاً: أَنْت جَارُه الأَدْنَى؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَقَد رَافَقَتْه فِي سَفَر؟ قَال: لا؟ قَال: فَلَعَلَّك عَامَلْتَه بِالْدُّرهْم وَالْدِّيْنَار؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَلَعَلَّك أَبْصَرْتُه فِي الْمَسْجِد يَرْفَع رَأْسَه تَارَة وَيَخْفِضُه تَارَة؛ قَال: نَعَم، قَال:اذْهَب فَإِنَّك لا تَعْرِفُه" فجعل عمرُ رضي الله عنه المعاملةَ معياراً للالتزام بالدين، فالصلاة: ليست مجرد حركات، ولكنها عبادة مثمرة للحق والصدق ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، والزكاة، ليست ضريبة مالية. ولكنها وسيلة وعبادة لتطهير المال وتنميته وتزكية النفوس ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، والصومُ ليس مجرد جوع وعطش، بل الغية منه أن يرتقي المسلمُ في درجات التقوى ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ وفي الحديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وفي حديث آخر (رُبَّ صائم ليس لهُ من صومه إلا الجوعُ والعطش)، والحجُّ ليس سياحة، بل هو عبادة روحية وبدنية ومالية لاستكمال الأركان لمن استطاع ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]....وقد يُخطئ الكثيرون ممن ثَقُلتْ عليهم العبادات فتركوها بدعوى أن الإيمانَ في القلب، وهم مخطئون بنفس درجة من يتعبد ويسيء المعاملة...وهذان الصنفان على ضلال....ولنا في هتين المرأتين عبرة: "قال رجل يا رسول الله إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: هي في النار قال: يا رسول الله! فإن فلانة يذكر من قلة صيامها [وصدقتها] وصلاتها، وإنها تتصدق بالأثوار من الإقط، ولا تؤذي جيرانها [بلسانها]. قال: هي في الجنة".......
عباد الله:
إذا تأكد لنا أن الإسلام عبادات ومعاملات وأخلاق، جاء ليُهذب السلوك البشري، فقد رتب على ذلك أجرا عظيما وثوابا جزيلا، فليس المشكل إذن في الدين يا من تريدون إقصاءه من الحياة، وإنما المُشكلُ في سلوك بعض المتدينين، فهل نتذكَّرْ ن والذكرى تنفعُ المؤمنين ولا عدوان إلا على الظالمين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبكلام سيد الأولين والآخرين، ويغفرُ الله لي ولكم، ولمن قال آمين
الخُطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه...
عباد الله:
إن الإسلام الذي انتشر بين العالمين في القارات الخمس، ما كان له أن يحظى بذلك التوسع والانتشار [بعد فضل الله تعالى] لو لم يكن الحاملون لدعوته مجسدين لتعاليمه عبادة ومعاملة سواء كانوا علماء أو مجاهدين أو تجارا، أو مسافرين...واسمعوا نموذجا: "كان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يسير ذات يوم في بعض طرقات مدينة بيت المقدس، وقد نصره الله. فقابله شيخ مسيحي مُسنٌّ، وقال له: أيها القائد العظيم لقد كُتب لك النصْرُ على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟ فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزوا بيت المقدس، فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ.. يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويحرم على قتل الأطفال والشيوخ والنساء، فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم.. إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمن أذنب.. فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينُكم، وإن دينا فيه مثل هذه الأخلاق يعلو ولا يعلى عليه". وأسلم الرجل وحسن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.
فانظروا رحمكم الله كم نحن اليوم في حاجة إلى نماذج من المسلمين يجمَعُون بين إتقان العبادات، وحُسْن المعاملات لنفوز في الدارين بأعلى الدرجات، ولكم بشرى الفائزين فعنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَضَى صَلاتَهُ أَقْبلَ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ"، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ، وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ انْعَتْهُمْ لَنَا، صِفْهُمْ لَنَا، فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُؤَالِ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ، وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ وَتَصَافَوْا فِيهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُون".