المال نعمة ونقمة
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
الحمد لله الرزاق ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره فهو المنعِم على خلْقه في الرخاء والشدة وفي اليُسر والعُسر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: ﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 57]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الشاكرين لنِعم الله، والقابلين لها، المثنين بها على مُسديها، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه المتمسكين بهديه ذوي الفضل والعرفان.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا ربكم واخشوا يومًا لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا، إن وعد الله حق، فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور.
عباد الله:
اعلموا أن ما رزقكم الله تعالى من الأموال وانفتاح الدنيا وزينتها ما هو إلا متاع، وعما قليل سيزول أو يزول عنه صاحبه، فالمال نعمة من الله تعالى على خلْقه؛ فإذا استعملوها في طاعته فهي فتْح باب رحْمته وبركته؛ قال تعالى في أهل الكتاب: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66]، فدلَّ هذا على أن المال بيد المطيع نِعْمة، وخير نافع في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ﴾ [الأعراف: 96]؛ أي: آمنت قلوبهم بما جاء به الرسول وصدَّقت به، واتَّبعوه بفعل الطاعات وترْك المحرمات: ﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]؛ أي: قطر السماء وإنبات الأرض، وقال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]؛ أي: ولكن كذَّبوا رُسلَهم، فعاقبهم بالهلاك على ما كَسَبوا من المآثم والمحارم، ويقول الله تعالى في قوم نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10، 12]، ويقول الله - عز وجل - في الوليد بن المغيرة الذي نصب العداوةَ لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يشكر الله تعالى على ما رزقه من الأموال والأولاد: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ﴾ [المدثر: 11 - 13].
فالمال يا عباد الله إن استُعمِل في طاعة الله تعالى، فهو نعمة، وإن استُعمِل في معصية الله تعالى، فهو نقمة، وباب سوء وعذاب؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أي: أَعرَضوا عنه وتَناسَوه وجعلوه وراء ظهورهم، ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ أي: فتحنا عليهم أبوابَ الرزق من كلِّ ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى، وإملاء لهم؛ عياذًا بالله من مكْره؛ ولهذا قال: ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ﴾؛ أي: من الأموال والأولاد والأرزاق، ﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾؛ أي: على غَفْلة، ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾؛ أي: آيسون من كل خير، وعن ابن عباس رضي الله عنه: (المُبْلِس: الآيس)، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: ومَن وسَّع الله عليه فلم يرَ أنه يَمْكُر به، فلا رأي له، ومَن قتَّر عليه فلم يرَ أنه يَنظُر له، فلا رأي له، ثم قرأ: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾، قال: مكَر بالقوم وربِّ الكعبة، أُعطوا حاجتهم ثم أُخِذوا".
وعن عُقْبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله يُعطي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج))، ثم تلا الرسول صلى الله عليه وسلم الآيةَ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء، رزَقهم القصدَ والعفافَ، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعًا فتح عليهم بابَ خيانة، ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾)) ا.هـ.
وقال تعالى فيمن يأكل من نِعَم الله تعالى ولا يُبالي بطاعته، ولا من أي طريق اكتسب المال، أو في أي طريق أنفقه: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12]، وقال لهم: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3].
عباد الله:
كما أنه يجب أن تُكْسَب الأموال من طريق حلها شرعًا، فيَحرُم أن تُنفَق في غير الطرق المشروعة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة)).
ألا وإن من الطرق المشهورة في كسْب الأموال غير المشروعة: ما يفعله كثير من المسلمين من بيع ما لا يَقدِرون على تسليمه، فيَحدُث الغَرر؛ كبيع ورقة الإسمنت على المصنع؛ فإن هذا داخل فيما لا ينبغي؛ فإن من شروط صحة البيع القدرة على التسليم، وهذا غير قادر على التسليم؛ لأنه لا يزال عند المصنع، ولا يعلم متى يُسلَّم.
ومن الطرق غير المشروعة: بيع أوراق المساهمات في الأراضي وهو لا يعرف نسبة نصيبه من الأرض، فيوقع البيع على رأس المال، وقد تكون المسألة فيها ربًا كأن تُباع الأرض، فيصبح ثمنها في ذمة رأس مال المساهمين، فيبيع المشتركُ نصيبَه بأقل، فهذا هو عين الربا؛ لأنه يبيع دراهم معدودة بدراهم معدودة.
ومن الطرق غير المشروعة: الكَذِب في المناقصات والمشتريات للدوائر الحكومية، ومؤسسات الشركات أو الأفراد، فيعطي صاحب الدكان مَن يشتري فاتورة بأزيد من الثمن؛ لتكون الزيادة للمشتري الموكل؛ كي يُرغِّبه في الشراء منه مرة أخرى.
ومن الطرق غير المشروعة: أخْذ الأموال بالكذب والحيلة من الضمان الاجتماعي، وهو لا يَحِل؛ إذ لا تَنطبِق عليه الشروط المطلوبة، كذلك البنك العقاري أو المساعدة للمواشي أو الزراعة، أو الأشجار، فيجب على المسلم ألا يتناول شيئًا من هذه الطرق إلا إذا انطبقت عليه الشروط التي أقرَّتها الدولة، وكذلك ما يُنفِقه كثيرٌ من الناس في الأسفار إلى البلاد التي توجد فيها حرية المعاصي؛ ليُشارِكهم في ارتكابها ويُعين عليها، وأكبر من هذا أن يجعل سفرَه في مقابل نعمة نجاحه، أو عافية صحَّته، فيذهب ليُقيم بين المعاصي، فيرتكب جُرْم مشاهدتها، إذا فرضنا أنه لا يتناولها، ومن جملة ما يُبذَل في هذه الطرق ما يُشترى للأولاد من المراكب التي لا يُحسِنون استعمالَها، ولا يَعقِلون عاقبةَ سوء استعمالها.
أخي المسلم:
ألا بذلت شيئًا من المال فيما يُقدِّمك إلى الآخرة، وفيما تكون به قدوة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو وَلدٍ صالح يدعو له، أو عِلْم ينتفع به))، فإذا لم تُقدِّم صدقة، ولم تُخلف عِلمًا، ولم تَقُم بإصلاح الولد، بل ربما أَعَنته على اللهو والفساد، فماذا ترجو من مالك المكدَّس الذي سهرت عليه ليلك، وأمضيت فيه نهارك، وأتعبت فيه فِكْرَك وجسمك؟ فاتقِ الله تعالى يا أخي المسلم، واصرف مالك في وجوه الخير، واحمد الله تعالى على ما أنت فيه من نِعَم، وَثِق أن مالك مقياس لاختبارك، فاحرص على النجاح: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ [المزمل: 20].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 5، 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.