الغربة وترك والدتي وحيدة
الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
السؤال
السلام عليكم.
أنا شابٌّ مصريٌّ، ترَكتُ أمي وحيدةً وسافرت إلى الخليج للعمل، وأشعُر بندمٍ لتركها، وليس لي عملٌ في بلدي، هل أترُك العمل وأعيش مع أمي عاطلاً، أو أستمرُّ في عملي وأترك أمي وحيدة؟
الجواب
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فليس بخافٍ عليك أنَّ بِرَّ الوالدين من أعظمِ القُرُبات، وأفضلِ الطاعات الواجبة التي ذكرها الله - سبحانه - في كتابه العظيم؛ كقوله - جلَّ وعلا -: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: من الآية 23]، وقوله - سبحانه -: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمَّا سأله بعض الصحابة: يا رسول الله، مَن أحَقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أُمُّك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أُمُّك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أُمُّك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أبوك))؛ متفق عليه.
وأقول لك: إنْ كان في بلدك مَن يُراعِي أمَّك، ويقوم على مصالحها، من إخوةٍ لك، أو أبٍ، أو قريبٍ لها، وكنتَ في حاجةٍ لهذا العمل للنفقة على نفسك، أو على أُمِّك، أو غير ذلك من الحاجات الأساسية - فَابْقَ في عملك حتى يُيَسِّرَ الله لك عملاً آخَر في بلدك، تستطيع أنْ تعيشَ به حياة كريمة، فأنت في تلك الحال بمنزلة المضطرِّ للسَّفر لطلب الرِّزق، وليس في بلدك سببٌ يعينُك على حاجتك، ويُسبِّب غناك عن السفر، وأنت مَعذورٌ في البُعد عن أُمِّك؛ والله - تعالى - يقول: ﴿ فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].
أمَّا إنْ كان ليس للوالدة مَن يقوم بمصالحها، من أخٍ، أو قريبٍ، كما يُفهَم من قولك: "أمي وحيدة"، وكانت لا تستطيع أنْ تستقلَّ بحياتها؛ بمعنى: أنها تحتاج لِمَن يمُدُّ لها يَدَ العون والمساعدة في شؤون حياتها؛ إن كان الحالُ كذلك، أنصحْك أنْ تعود لبلدك عند أمِّك، وتدعَ السفر؛ تغليبًا لمصلحة أمِّك، وحتى لا تضيِّعها، ولتكسِب رضاها، وتَجبُر خاطرها، ولْتَبحثْ عن سبيلٍ للرزق في بلدك؛ قال - تعالى -: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون ﴾ [الذاريات: 22]، وقال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].
واعلَمْ - رحمك الله - أنَّك لن تدعَ شيئًا لله - عزَّ وجلَّ - إلا أعطاك الله خيرًا منه؛ كما ثبت عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "مسند أحمد"، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ روح القُدُس نفَث في رُوعي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ رزقها؛ فاتَّقوا الله وأجمِلوا في الطَّلب، ولا يحملنَّكم استبطاءُ الرزق أنْ تطلُبوه بمعاصي الله؛ فإنَّ الله لا يُدْرَكُ ما عنده إلا بطاعتِهِ))؛ رواه عبدالرزاق في "مصنفه"، والبزار في "مسنده"، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه.
واللهَ أسألُ أنْ يُقدِّر لكَ الخير حيث كان.