مصادر صناعية (1)
محمد صادق عبدالعال
"اختلف الصَرفيُّون في أصل المشتقات اختلافًا ليس من ورائه طائل، وأشهر الأقوال قولُ البصريين والكوفيين.
فقال البصريُّون: إن المصدرَ أصلُ المشتقات من الأفعال والصفات.
وقال الكوفيُّون: إن الفعلَ أصلُ المصادر والصفات.
وعلى أيِّ حال، فالمصدرُ في اصطلاح النُّحَاة: "هو ما دلَّ على حدَثٍ مجرَّدٍ عن الزمان، وتختلف صيغتُه باختلاف صيغة الفعل"[1].
وفي مقال سابق لي عن التغيُّر والرؤية له من منظور أدبي فيما يخصُّ الشعراء والكُتَّاب، لم يكن قد اكتمل بعدُ، حتى ولو أسهبتُ فيه؛ فما لكلامِ البشر من كمالٍ!
أحسُّ هذا المصدر الآن، أعيشُ لحظاته؛ فها هو "التيار الكهربي" مُنقَطِع من ساعة مبكرة من صباح يومي، وتلك هي الساعة التي تعوَّدت وتأقلَمْتُ فيها أن أجلس إلى جهازي، وأمسك بالفأرة، وأطوفُ عبرَ صفحاتي المحفوظة، والشبكة العنكبوتية؛ إشباعًا لرَغَبات الفكر والعقل؛ وتسهيلًا لمهمة البحث بأناملَ وسبَّابةٍ وإبهام.
أجد نفسي الآن أمامَ ثلاثةٍ لا رابع لهم: "القلم، والورقة، والكتاب"، حاولتُ أن أتواكب معهم قدرَ المستطاع علمًا بأنه وَضْعٌ مؤقَّت، ولكن من الِمحن تنجلي المِنحُ كما يستبشرون.
وتلك الحالة استدعت لديَّ حالةً أخرى من الإشفاق والإنصاف للرعيل الأول، كيف كان يحيا بدون تلك الطاقة المحسوسة غيرِ الملموسة، وليس الكلامُ عن تقنية الحاسوب وحسب، بل كل ما انسدَل تحت مسمَّى "تقنية" تتطلب الطاقة لكي تؤدي دورَها المصنوعةَ لأجله.
فليس بخافٍ على كل ذي عقل أن الحركةَ والحرارة وغيرهما نِتاجُ تحولٍ للطاقة.
ومرةً سألني صاحبي يحاورني في أمرها، فيقولُ لي:
عَرِّف "الكهربية" أو الطاقة تعريفًا أدبيًّا يليق بالمثقَّفين، بعيدًا عن كونه مصدرًا صناعيًّا، ولفظًا مصنوعًا للدلالة على حقيقته.
قلتُ بدون تردد وقد اختزلت تلك المعلومة برأسي من زمن:
"الكهربيَّة أو الطاقة بمثابة الروح في الجسد، فإن غادرَتِ الروحُ الجسد، تعطَّلت كلُّ الأعضاء عن أداء وظائفها".
وإن النائم ليُعدُّ في الموتى، ولكن تظلُّ رُوحُه بين جنبَيْه ما لم تُغادِرْ، تؤدِّي وظائفها المَنُوطة بها على أكمل وجهٍ، فسبحان الخالق العظيم!
وبالذكر فإن: "المجمع اللُّغوي" قد أصدر قرارًا بالقياس في المصدر الصناعي؛ لكثرة وروده عن العرب، ولحاجة العلم بعد ترجمة العلوم والتعمُّق فيها، ومستحدثات الحياة.
والسؤال الذي يطرَحُ نفسَه: "كيف كانوا يَحْيَون أو يعيشون بدون تلك الروح المُكناة بالكهربية"؟
ومما لا ريبَ فيه ولا جدال أنهم لم يصلوا إليها قديمًا، وقد كان لديهم حظٌّ وافر من بساطة الإمكانات، وقلة المُتطلَّبات، التي لم تجعل حياتهم اليوميَّة أكثر تعقيدًا كعصرنا هذا.
وأصالةً عن نفسي فكثيرًا ما كانت تستهويني فكرة "الشمعة والمصباح البدائي والقلم والورقة"، غير أن تداعيات مواكبة العصر لا تتطلَّب رغبتي تلك المتواضعة.
ولن أتهرَّب مما طرحت من أطروحةٍ حولَ الرَّعيل الأول أو الأوائل بشكل عام بالحديث عن ذكرياتي مع الشموع والدموع والمصباح القديم، فأقول: إن الإنسانَ القديم كان يسعى حثيثًا ليُحدِثَ طفرةً تقدُّميَّة في معطيات الطبيعة ومفردات الكون، فلا ننكرُ له اختراعَه الكثير والكثير مما طَوَّر وخدم الإنسان المعاصر، أو على مر العصور من تقنياته، لتُصبِحَ أكثرَ فاعليَّة وأيسر استخدامًا؛ فلو ذكرنا مثالًا بسيطًا "للبُوصلةِ"، التي كانت تسمَّى: "بالإسطرلاب"، والتي نشرفُ ونتشرَّف دومًا بأن نقول: إن مخترِعَها عربيٌّ، وكذلك فكرةُ البارود، والكثير مما لا نستطيع له حصرًا، ولا ينبغي لنا سوى التحسُّر على ما قد فاتنا من سبقٍ وألمعيَّة في نشر نور العلم، ناهيك عن المَعيَّة، وما زلنا نتضلَّعُ بأولئك الذين لم يعاصروا تلك الطاقةَ أو الكهربيَّة التي هي بيت القَصِيد في المقال.
ولعل الحاجةَ المُلحَّة التي هي أمُّ الاختراع - كما يُقال - هي ما دفعَتِ القديم ليبحث ويُنقِّبَ في الأرض ليُريَه الله كيف يُوظِّف إمكانياته وقدراته المحدودة حينها.
فعلى سبيل الذكر لا الحصر "ابن سينا" الطبيب الشاعر الفيلسوف حينما أراد بناء مستشفى، وكانت تُسمَّى حينها بـ "بيمارستان" وَزَّع قطَعَ لحم بأماكن متفرقة؛ ليكتشف أي الأماكن ذات طبيعة مناسبة لذلك.
كانت تلك الفكرةُ في عصره سبقًا وأيُّ سبقٍ، إذا قِيست على علومهم حينها، فسبحان مَن هداه لتلك الفكرة، وعلَّمه الفراسة، وأنه - ومَن على شاكِلتِه - قد مهَّدوا لصناعة مجدِ الأمة بشتى مجالات الحضارة؛ فمنَّا مَن ضَيَّع، ومَن يَقنَعُ، ومنَّا مَن يقتفي آثارَهم، وكثير منا المُفرِّطون!
ولا أجزِمُ بأن القديمَ لو كان قد هُيِّئ له ما تهيَّأ لنا الآن، لم يفعل فعلنا؛ لأن الكلامَ في ذلك يعتبر دربًا من الكهانة وقراءة الغيب، في حين يوافقني صديقي الذي سألني في أمر "الكهربية" آنفًا تلك الرؤيةَ؛ فالنفسُ البشرية هي النفس البشريَّة في كل زمان وأي مكان؛ ترتقي بما يرفعُها، وتهبط بما تكتسبه من رذيلة ونقيصة.
فمن الناس من إذا مَسَّه التَّرَف والنعيم، أسندَ ظهرَه لجدار الكسلِ، واتَّكل على ما قد سلف، وليس الأمرُ محضَ افتراء، لكنه مخافةُ التَّكهُّن بما لم يحدث أصلًا.
وحتى لا نُشطِطَ ونتطرَّق لمسألة النية والعزيمة، ومفردات لا تَمُتُّ للمقال بصلة نرجع ثانيةً لهذا "المصدر الصناعي" الذي أصبح وأمسى الآن عمادَ حياةٍ وركيزةً هامة من ركائز الاقتصاد، وجعل من كماليات البيوت والديار أساسيات لا غنى عنها.
ونقول مختبرين أنفسَنا: لو ظل "التيار الكهربي" هذا منقطعًا عنا غيرَ موصول فترة تتعدى الأسابيع والشهور، ما عسانا سنفعل؟ ولن أخمِّن ما سيحدث؛ إذ هو واقع جائز المرور؛ ومُعرَّضون نحن له في أي وقت ما لم نسعَ بجدٍّ لإيجاد البدائل واستحضار العِوض عنه.
هل سنتخيَّلُ أنفسنا وقد عُدْنا لعهد سابق، وتنازلنا عن الكثير والكثير من تَرَفِ ومُتَع العصر الحاضر؟ منا مَن يَتطلَّعُ لذلك؛ مجانبةً للتلوث السمعي والبصري، وصخب المدن، وهمجيَّة بعض أهل الأزقَّة، وثقافة الجُهَّال، ومنا مَن يخشاه، وما يتوخاه إلا العالِمون، الذين يبحثون بجدٍّ عن بدائل أُخَر، فضلًا عن كونها أكثرَ نقاءً، وأقلَّ ضررًا.
وبعودة لقصتي "حدث في المدينة" التي نُشرت بكتابي "وتمرَّد القلم" لفتًى في بدايات عقده الثالث، يسكن سطحَ بيت قديم وسطَ حيٍّ من أحياء المدينة الحاضرة، لا ينصرف لضوضاء العصر، ولا صخب المسارح والمهرجانات، ليصل به الحال ليكوِّنَ في عالمه الآخر فكرةً جديدة بوصول "مارِدَيْنِ" إلى بيته يريدان أن يهدما المدينةَ، ويجعلا عاليَها سافلَها؛ لِمَا مسَّها من ضر بسبب التَّرَف والنعمة؛ فيجد نفسَه مسؤولًا عن إحداث تغيير ملحوظ في أخلاقيات مجتمعه، ويطول بينه وبين الماردَيْنِ الحوار ليصل بهم إلى حلٍّ وسط، وكلمة سواء:
(الفتى "علي": مِن الناس من لا يرجعُ إلا إذا ابتُلِي، وذكر قول الله: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]؛ فهم الآن في ابتلاء النِّعمة، فلو أنهم ابتُلوا ببلاءٍ يصعب عليهم في هذا العصر مواجهتُه إلا بالرُّجوع إلى الله؛ رجاءَ أن يهتدوا، ولقاء أن تنجوَ المدينة مما أُمرتم به!
المارد الأول: ماذا تبغي؟
الفتى "علي": سيِّدي المارد، إن (الطاقة الكهربيَّة) بما تمثِّله من عنصر رئيسٍ وفعَّال في قيام وإنجاز العديد من المهامِّ الحياتية والضرورية لهم - تصبح هدفًا قويًّا للبلاء، ما رأيكما؟
المارد الثاني: تقصد أن نقطعَ عنهم التيار (الكهربي) مثلًا؟
الفتى "علي": الكهرباء، وكل ما يُعزى القيام به للطاقة بأنواعها المختلفة.
المارد الأول: أصبتَ والله يا فتى، ولكن اعلم أنك متى أفشيتَ السرَّ، نقضنا العهد.
الفتى "علي": لكما ذلك أيُّها الماردانِ.
المارد الأول: على اتِّفاقنا، الفجرُ سيبزغ بعد قليل، نراك بعد شهر كاملٍ، وإن لم يتغيَّروا؟
الفتى "علي": فبِي فلتبدؤوا)[2].
وعلى الرغم من كون القصة خياليَّة، وترجع بالمجرد والميتافيزيقا، إلا أنها تعالج قضيةً من الممكن أن تقع في أيِّ وقت؛ فحدوثُها ليس بالمستبعد، أو اللامعقول.
إن التضحيات الكبيرة تأتي جَرَّاء تنازلات عديدة واستهانة بالصغائر والعابرات مرورًا غير ملحوظ إلا لمَن رزقه الله الفِراسة؛ فرأى بعين ثالثة.
ولست بخارجٍ عن نص المقال حين أُورد تلك القطعة النثريَّة القصيرة من سلسلة كتاب العربي الفصلية؛ للدكتور شاكر مصطفى في شأن حطين القادمة، حين اختَتَم مقالَه الموسوعيَّ بقوله:
(إن حطَّين القادمةَ سوف تكون قطعًا من الجحيم تتفجَّر بالأرض والناس، وكأني أرى من خلال الغيب الطرقَ والعواصمَ العربية للقدس الشريف مفروشةً بالأشلاء الغالية، والجماجم قد انطفأت فيها العيون، ونبت العشب فوق أضلاعها)[3].
إن التاريخَ لَيُعيدُ نفسَه كما يزعم المؤرخون وكُتَّابه، ولكن بكيفيَّة لا يعلمها إلا الله.
وحتى لا أُتَّهم بالشطط جُملةً وتفصيلًا، فالمقصود هنا: أن التهاون، واعتيادَ الراحة، وسهولة العيش والتَّرَف، والخلودَ إلى ملذَّات الحياة - سوف يُكرِّس لتضحيات قادمة أطولَ، ستكون أشدَّ إيلامًا عن سابقاتها؛ فلنَحْذَرْ أن تأتينا بَغتةً ونحن غافلون، وقد صارت الطاقةُ - كما أسلفنا - عمادَ كلِّ عمودٍ، وضالَّةَ كلِّ منشود.
وإن استحداثَ الجديدِ الذي يَخدُمُ البشرية، ويزيدُ من رفاهيتها ليس بدعةً ولا منكرًا؛ فرسول الأمَّة يقول: ((أنتم أعلمُ بشؤون دنياكم))، ولعلَّها رسالة صريحة من معلِّم البشرية كلِّها بالسعي والتنقيب والبحث، وكل ما من شأنه صنعُ مجدِ الأمة بالصورة المعتدلة.
والشواهد على الحثِّ على طلب العلم والعمل كثيرةٌ، على سبيل المثال: شهادة التقدير تلك التي منَحها ربُّ البرية لعباده: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
إذًا لا حجة لنا في الركون والخلود؛ بل نحن مُطالَبون بالسعي والتنقيب والزيادة والريادة.
وأذكرُ قولَ القائل:
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى ♦♦♦ وجمالُ العلمِ إصلاحُ العملْ
إن المقال ليس في مقام وعظٍ؛ فلو كان بالوعظ لاكتفَيْتُ بوعظ نفسي، وإنها لكبيرة إلا على المخلصين، لكن بلادنا وشعوبنا العربيَّة بحاجة لطفرة علميَّة كبيرة؛ تعيدُها لدورها القيادي الذي كانت عليه من قرون مضَت.
ولعل من ذاكر يتذكر في حرب أكتوبر 1973 لما تكاتف العرب وتوحَّدوا حتى ولو لم يكونوا جميعهم، كيف حَيَّرنا عدوَّنا، وجعلنا الطاقة سلاحًا ضدَّ أعدائنا، وجرُّوا عرباتهم بالأحصنة وبالخيول"، كان هذا في القرن الماضي وقد ناهز الأربعين عامًا أو يزيد، فهل نحن الآن في اكتفاء أم احتياج؟ نحن في حاجة لثورة لا تنطلق من الميادين والأزقَّة، أو مواقع التواصل الاجتماعي، بل بحاجة ماسة إلى تغيير مسارِ الفكر من التفكُّك، وصناعة الحوار المخالف، ومجانبة كلِّ ما من شأنه تعطيلُ القدرات التقنية والبحث العلمي.
وختامًا: بعدما مَلَّتْ من استخدام القلمِ راحةُ يدي، أُذَكِّر بأن تلك "الكهربيَّة" نعمة مِن الله مَنَّ بها على عباده، ولكل عصر نِعمُه ونعماؤه التي يَمُنُّ الله علينا بها، فالله حين قال وهو أصدق القائلين: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18]، أراد أن يُبيِّن للبشرية جمعاء إحاطةَ علمه الأعظم بكل جديد ومبتكر من صنع البشر أنى كانوا في مشارق الأرض ومغاربها، وسبحان من له الآلاء والفضل العظيم.
[1] كتاب القواعد للمرحلة الثانوية العامة، وزارة التربية والتعليم - مصر.
[2] حدث في المدينة، كتاب "وتمرد القلم" ص: 80، الطبعة الأولى، الصادر عن دار النيل للطبع والنشر والتوزيع، المهندسين، مصر.
[3] سلسلة كتاب العربي الفصلية؛ للدكتور شاكر مصطفى، الكتاب الخامس والعشرون من مقال "حطين والفرص الضائعة"، ص: 82.