البر بالوالدين
د. محمد أكجيم
الحمد لله...
فطرت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن كان له فضل عليها، ولا أعظم إحساناً ولا أكثر فضلاً بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين.
لله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد.
الأم تحمل وليدها تسعة أشهر وهناً على وهن، وعند الوضع ترى الموت بعينها، فإذا أبصرت وليدها نسيت آلامها، وعلقت فيه جميع آمالها. تشغل نفسها بخدمته ليلها ونهارها، تغذيه بصحتها، طعامه درها، وبيته حجرها، ومركبه يداها وصدرها وظهرها.
تحوطه وترعاه، تجوع ليشبع، وتسهر لينام، فهي به رحيمة، وعليه شفيقة. إذا غابت عنه دعاها، وإذا أعرضت عنه ناجاها، وإذا أصابه مكروه استغاث بها. يحسب كل الخير عندها، ويظن أن الشر لا يصل إليه إذا ضمته إلى صدرها أو لحظته بعينها، هذه هي الأم الرحيمة الكريمة، ولا عجب أن عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - حقها حين سئل: من أحق الناس بحسن صحابتي فقال: "أمك. قال ثم من؟ قال أمك......".
أما الأب فيكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، يتنقل في الأسفار، ويتحمل الأخطار بحثاً عن لقمة العيش، يجوع لتشبع، ويعرى لتَلْبَس، ويشقى لتسعد، ويتعب لترتاح، إذا مرضت داواك، وإذا بكيت أرضاك، وإذا ضحكت فرح، وإذا نهضت أتبعك النظر، وإذا سافرت أتبعك الدعاء.
رفع الله قدر الوالدين وعظم حقهما فقَرَنَ سبحانه عِبادَته بالإِحْسانِ إليهما فقال: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالولِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ [الإسراء:23].
قَرَنَ سبحانهُ شكره بشُكْرِهما: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِولِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان:14].
وصى سبحانه بالإحسان إليهما فقال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ﴾ [لقمان:14].
البر بالوالدين حق واجب لهما وإنْ لم يكونا مسلمين، قال تعالى: ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا واَتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان:15].
بر الوالدين خلق الأنبياء والمرسلين؛ فعيسى - عليه السلام - يقول متحدثا بنعمة الله عليه: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32]، و يحيى - عليه السلام - يثني عليه ربه فيقول: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم:14]، وإسماعيل - عليه السلام - يقول لأبيه: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات:102].
بِرُّ الوالديْنِ من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ وأفضلِها بعدَ الصَّلاةِ، سُئِلَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ؟! قَالَ: "الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟! قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟! قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".رواه البخاري.
جَاءَ رجل إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟!"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". رواه البخاري.
حق الوالدين عظيم، مهما اجتهد الإنسان في الإحسان إليهما، وبالغ في تحقيق البر بهما، لا يستطيع مكافأتهما.
ألا وإن من حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، من حقهما دفع الأذى عنهما، من حقهما النفقة عند الحاجة وحسب الاستطاعة عليهما.
من حقهما حسن مخاطبتهما، وطيب محادثتهما: ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء:23].
من حقهما: التواضع لهما، والرخمة بهما والعطف والشفقة عليهما .
من حقهما: الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما، ﴿ وقل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ﴾ [الإسراء:24].
من حقهما والبر بهما: الإحسان إلى أصدقائهما والإكرام لأصحابهما، "جاء رجل إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم وقال: هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال صلى اله عليه وسلم: ((نعم الصلاة عليهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما)).
البر بِالْوَالِدَيْنِ سبب للسعة في الرزق، وطول العمر، وحسن الخاتمة. ففي الحديث: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه" والوالدان أقرب الناس إلى الإنسان رحماً.
البر بِالْوَالِدَيْنِ سبب للفوْزِ برضى الله سبحانهُ؛ ففي الحديثِ: "رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا". رواه الترمذي، وهو في صحيح الجامع (3507).
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَـالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً ﴾ [الإسراء:23-25].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
عقوقَ الوالديْنِ جحودٌ للفضلِ، ونُكْرانٌ للجميلِ، بالغ في القبح غايته وفي اللؤم نهايته شنيع مركوزة في الفطر السليمة والعقول الراشدة المستقيمة شناعته.
عقوقُ الوالديْن من الكبائر العظيمة والآثام الكبيرة.
عقوق الوالدين سبب للحرمان من دخول الجنة عياذاً بالله.
عقوق الوالدين يعجّل الله به العقوبة في الدنيا، مع ما لصاحبه من النكال والعذاب يوم القيامة؛ ففي الحديث: "ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".
- أيها الزَّوْجُ الكريم - أعِنْ زوْجَتَكَ على بِرِّ والِدَيْها، ويا أيتها الزَّوجةُ الكريمة - أعِينِي زوجَكِ على بِرِّ والديْهِ، فبركما بوالدَيْكُما سبيل الصلاح لأموركما وسعادتكما وذريتكما في الدنيا والآخرة.
العُقُوقُ دَيْنٌ ووفاءٌ، فمن أعْرَض عن والديه سلَّط اللهُ عليه منْ ذُرِّيَتِه منْ لا يُراعِي فيه عهْدًا، ولا يحفظُ له وُدًا، ولا يُقيمُ له وَزْنًا، ولا يعرفُ فيه حَقَّ أُبُوَّةٍ ولا واجِبَ بُنُوَّةٍ، فكما يدينُ الإنسان يدَانُ، والجَزاءُ منْ جِنْسِ العملِ.
ألا فليغتنم الفرصة من لا يزال ينعم بوجود والديه أو أحدهما، قبل فوات الأوان، وقبل الندم والحسرة على الدوام.
بكى إياس بن معاوية حين ماتت أمه بكاءً شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: "كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بكاها".
ومن فارق الموت بينه وبينهما أو أحدهما، فليكثر من الدعاء والاستغفار لهما والصدقة عليهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، فعسى رحمة من الله يتدارك بها التقصير، ويغفر بها الذنب الكبير.