يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ
كان من بقايا الشرائع والآداب التي ورثها أهل الجاهلية عن دين إبراهيم عليه السلام: تعظيمُ الأشهر الحرم، وتحريم القتال فيها، وهي: ذو القعد، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، ولـمَّا جاء الإسلام أقر تلك الآداب وأكد عليها، قال صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وقد وقع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل في رجوعه من بدر الأولى عبدَ الله بن جحش على رأس سرية إلى بطن نخله، يأتيه بأخبار عير لقريش يقودها: عمرو بن الحضرمي، قال ابن كثير: "فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى"، وساقوا العير وأسيرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت قريش تعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: استحل محمد الشهر الحرام، شهرًا يأمن فيه الخائف، ويتفرق الناس فيه إلى معاشهم؛ فأنزل الله تعالى في ذلك: {وَيَسْألونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
فالله تعالى يؤكد في هذه الآية على الأصل الذي كان عليه أهل الجاهلية، وهو تحريم القتال في الأشهر الحرم وتعظيمها بقوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} قال الطبري: "أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه"، وكان هذا هو الذي عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول رجب، قال ابن كثير: "وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب"، فكان الأصل المعمول به عندهم لـمَّا كُتب عليهم القتال حرمةَ القتال في الأشهر الحرم، ولكنَّ الله تعالى الذي أكد في هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، وأنه إثم كبير لا يحل؛ قال لهم: ولكن كفركم بالله تعالى وأنتم أهل الحرم، وصدكم الناس عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه؛ أكبرُ عند الله تعالى من القتال في الشهر الحرام.
ثم إن الفقهاء وأهل التفسير قد اختلفوا في حرمة القتال في الأشهر الحرم الذي أكدته هذه الآية، هل بقي حكم الحرمة أم أنه نسخ بآية براءة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]؟
فذهب عطاء إلى أن تحريم القتال في الشهر الحرام لم ينسخ، ورأى أن آية براءة عامة في كل الأزمنة، وأن آية البقرة خاصة بزمان معين، ورأى أن العام لا ينسخ الخاص، وعليه قال "ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب".
وذهب جمهور المفسرين إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ بآية براءة {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً} واستدلوا على ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قد غزَا هوازن بحُنين، وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، وكل ذلك كان في الأشهر الحرُم، قال الطبري في ذلك: "فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم، وأن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة"، وكل ذلك مما يؤكد نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم وجوازه فيها وفي غيرها، وقد قال الزهري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد".
وأما من استدل على بقاء حكم تحريم القتال في الأشهر الحرم بآية براءة {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [التوبة: 5]، بأن الأشهر الحرم هنا هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب، وقال بأن سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن، وأحكامها أحكام محكمة غير منسوخة؛ فقد غلط، فهذه الأشهر الحرم في الآية هي أشهر التسيير الأربعة المذكورة في الآية قبلها {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]، وهي العهد والميثاق الذي أعطاه رسول الله للمشركين أن يسيروا في الأرض آمنين فيها، وبعد ذلك لا عهد لهم عنده ولا ميثاق، وليست هي الأشهر الحرم التي سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال فيها، قال ابن كثير في ذلك: "لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر"، والمذكور هنا أشهر التسيير وليس الأشهر الحرم.
منقول