موقف أهل السنة والجماعة من العقل
محمود الدوسري
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه ُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: يُمكن إجمال "مفهوم العقل" لدى أهل السنة فيما يلي[1]:
1- الغريزة المُدرِكة في الإنسان التي بها يعقل ويعلم، وهي فيه؛ كقوة البصر في العين.
2- العلوم الضرورية، وهي التي تشمل جميع العقلاء؛ كالعلم بالممكنات، والواجبات.
3- العلوم النظرية، وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال.
4- الأعمال التي تكون بموجب العلم، قال الأصمعي: (العقل: الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن)[2].
قال ابن تيمية رحمه الله: (الْعَقْلُ: مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلاً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَقْلُ لا يُسَمَّى بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ، وَلا الْعَمَلُ بِلا عِلْمٍ؛ بَلْ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ)[3].
وقال ابن القيم رحمه الله: (العقل عقلان: عقل غريزة: وهو أبو العلم ومربيه ومُثمره. وعقلٌ مُكتسب مُستفاد: وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته، فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، واستقام له أمره، وأقبلت عليه جيوش السعادة من كل جانب)[4].
منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال العقلي: جاء موقف أهل السنة والجماعة من العقل والاستدلال العقلي على مدار العصور وسطاً بين موقِفَين متواجدين أيضاً على مدار العصور، والفارق بين أهل السنة وغيرهم: هو بقاء أهل السنة واستمرارهم وبقاء منهجهم مُطَّرِداً، أمَّا غيرهم فقد تغيَّروا وتغيَّرت أسماؤهم على مدار التاريخ، فليس لهم من الثبات والبقاء ما لأهل السنة والجماعة.
وأمَّا عن المَوْقِفين المُنحرِفين عن الجادة، فأحدُهما مُغَالٍ إلى أقصى درجات الغلو في تمجيد العقل وإعلاء شأنه وتقديمه على غيره، حتى وصل بهم الأمر إلى جعله حاكماً على النَّص المُقدَّس.
والآخَرُ مُفْرِطٌ إلى أقصى درجات التفريط، حيث ألغى العقلَ وهمَّشَ دورَه وأسلم نفسَه إلى الخرافات والأهواء والبدع والضَّلالات تعبث به وبدينه.
وهذان المَوقِفان كانا ولا يزالان في صراعٍ شديد مع أهل السنة والجماعة؛ إذ إنَّ كُلاًّ منهما يرى في أهل السنة عَدُوَّه الأوَّل، وليس هذا إلاَّ لما يملكه أهل السنة من حُجَّةٍ وبرهان على صحة منهجهم وقوة مذهبهم.
وهذا الموقف الوسط عند أهل السنة ليس توليفاً بين موقفين، وإنما هو الموقف المُتَّزن بميزان الشرع؛ لذا جاء وسطاً معتدلاً مُتَّسِقاً، لا تناقضَ فيه ولا تعارض.
أمَّا عن المَوقِفين المُنحرفَين عن جادة الصواب، فهما:
الأوَّل: أهل الكلام؛ كالفلاسفة والمعتزلة الذين غالوا في تقديس العقل، وجعلوه الأصل لعلومهم ومعارفهم، وقدَّموه على الوحي، بل جعلوه حاكماً على النقل والشرائع، ومع ذلك هم مُتفاوتون فيما بينهم في درجة هذا الغلو، وكذلك ينضم إليهم أصحاب المدرسة العقلانية الحديثة ومَنْ سار على دربها، على تفاوتٍ فيما بينهم من حيث درجة الغلو والانحراف كذلك.
الثاني: الخرافيون؛ كغلاة الصوفية والرافضة؛ الذين ذمُّوا العقل وعطَّلوه وأهملوه ولم يلتفتوا إليه، واعتقدوا ما لا يُعقل من الحماقات والخرافات، وكذا مَنْ سار على هديهم من أصحاب الطُّرق الصُّوفية الحديثة والدَّجالين والمُشعوذين وأصحاب الفِرق والمذاهب المُستحدثة؛ كالبهائية والبابية والقاديانية وغيرها، الذين ألغوا العقل، وأسلموا أنفُسَهم للخرافة والبدعة والجهل.
أمَّا أهل السنة فكانوا وسطاً في هذا الباب، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إجحاف؛ فقد أخذوا بالنظر العقلي الذي أمرت به الشريعة؛ من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر ونحوه، لكنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطلٍ في النظر والاستدلال، فشنَّع عليهم أهل الكلام؛ معتقدين أنَّ هذا الإنكار مستلزِمٌ لإنكار جنس النظر والاستدلال.
يقول ابن تيمية رحمه الله - في معرض ذبِّه عن أهل السنة ودفعِ ما يتَّهمهم فيه أهل الكلام بأنهم مُعرِضون عن النظر العقلي بالكلية: (وَمِنْ الْعَجَب: أَنَّ أَهْلَ الْكَلامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَهْلُ تَقْلِيدٍ، لَيْسُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَاسْتِدْلالٍ، وَأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ حُجَّةَ الْعَقْل، وَرُبَّمَا حُكِيَ إنْكَارُ النَّظَرِ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا بِحَقٍّ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لا يُنْكِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، هَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ. وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي غَيْرِ آيَةٍ، وَلا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وَلا أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَائِهَا أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الأمْرِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ؛ مِنْ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَقَعَ اشْتِرَاكٌ فِي لَفْظِ "النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ " وَلَفْظِ "الْكَلامِ"، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَا ابْتَدَعَهُ الْمُتَكَلِّمُو نَ مِنْ بَاطِلِ نَظَرِهِمْ وَكَلامِهِمْ وَاسْتِدْلالِهِ مْ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ إنْكَارَ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لإِنْكَارِ جِنْسِ النَّظَرِ وَالاسْتِدْلال)[5].
ولأجل هذا نجد ابن تيمية رحمه الله يحتفي كثيراً بما في كلام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من ردودٍ عقلية على الجهمية والزنادقة، في نفيهم لعلوِّ الله تعالى، وقولهم بالحلول[6]؛ لما في ذلك من دلالة على اهتمام أئمة السلف بدلائل العقول؛ ولما فيه من ردٍّ على مَنْ يتَّهم السلف بالنصية المطلقة، وضعف الحجة العقلية، والاقتصار على السمع.
ومن صور تكريم الإسلام للعقل – كما هو مذهب أهل السنة والجماعة – أنْ حدَّد له ميادين يمكنه أن يسير فيها بأمان، بشرط أن يستعملها استعمالاً صحيحاً، إذ عمله خارج مجاله هذا يعرِّضه للخطأ والتخبُّط؛ لأن هناك ميادين لا يدركها العقل؛ كعلم الغيب مثلاً، وهناك ميادين لا يدرك العقل حِكَمَها وعِلَلَها على وجه الحقيقة؛ كالعبادات.
وإنَّ كثيراً من أرباب المذاهب الفلسفية والكلامية الذين أرادوا تمجيد العقل والرفع من شأنه - بزعمهم - أساؤوا إليه أيَّما إساءة؛ حيث أوغلوا في مفاوز لا يهتدي فيها على سبيل، حتى صار أحدهم يأتي بالحُكم ونقيضِه، وإنْ أصاب مرةً تعثَّر مرات[7].
ضوابط الاستدلال العقلي عند أهل السنة: من أهم ضوابط الاستدلال العقلي عند أهل السنة:
1- أنَّ العقل لا يستقل بنفسه، بل هو محتاج إلى الشرع؛ إذ العقل (غريزةٌ في النفس وقوةٌ فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتَّصل به نور القرآن والإيمان كان كنور العين إذا اتَّصل به نور الشمس والنار، وإذا انفرد بنفسه لم يُبصر الأمورَ التي يعجز وحده عن دركها)[8].
2- تقديم "النقل" على "العقل" عند توهُّم التعارض، فالعقل مصدِّق للشرع في كل ما أخبر به، دال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم دلالة عامة مطلقة؛ بل يقال إنَّ العقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فكيف بالرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم في خبره عن الله تعالى الذي لا يجوز عليه الخطأ، فتقديم قول المعصوم على ما يخالفه من استدلال عقلي، أَولى من تقديم العامي قول المفتي على قول الذي يُخالفه[9].
والعقل لا يمكن أنْ يُعارِض الكتاب والسنة؛ لأنَّ "العقل الصريح" لا يُخالف "النقل الصحيح" أبداً، فلا يصح أنْ يُقال: إنَّ العقل يُخالف النقل، ومن ادَّعى ذلك فلا يخلو من أمور[10]:
1- أنَّ ما ظنَّه معقولاً ليس معقولاً، بل هو شبهات توهم أنه عقل صريح وليس كذلك.
2- أنَّ ما ظنَّه سمعاً ليس سمعاً صحيحاً مقبولاً؛ إما لعدم صحة نسبته، أو لعدم فهم المراد منه على الوجه الصحيح.
3-أنه لم يُفرِّق بين ما يُحيله العقلُ وما لا يُدركه؛ فإن الشرع يأتي بما يعجز العقلُ عن إدراكه، لكنه لا يأتي بما يعلم العقل امتناعه.
قال ابن القيم رحمه الله: (وقد كان السلف الطَّيِّب يشتدُّ نكيرُهم وغضبُهم على مَنْ عارض حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحدٍ من الناس كائناً مَنْ كان، ويهجرون فاعلَ ذلك، ويُنكرون على مَنْ يَضرب له الأمثال، ولا يُسوِّغون غير الانقياد له والتسليم، والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم التوقُّف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قولَ فلانٍ وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36])[11].
الفرق بين أهل السنة وغيرهم في إعمال العقل: وتجدر الإشارة إلى أنَّ الخلاف القائم بين أهل السنة وغيرهم في مسألة "العقل والاستدلال العقلي" إنما مرجعها إلى مسألة: أيهما أَولى بالتقديم؛ العقل أم النقل؟ فأصحاب المدرسة العقلية - التي غالت في العقل ووثقت به ثقةً مطلقة: قدَّمت العقل على النقل وعلى سائر الأدلة، بينما أهل السنة: قدَّموا النَّقل على العقل، وجعلوه حاكماً عليه.
وليس أدل على رحابة أهل السنة وتوسُّعِهم في استعمال العقل؛ من تلك المؤلَّفات التي لا حصر لها في الفقه وأصوله، بل حتى في السنة وعلومها؛ إذْ كيف يتسنَّى لهم هذا الانتاج العلمي الغزير دون إعمالهم للعقل أبلغ إعمال.
بينما لو نظرنا إلى أصحاب الفِرق والمذاهب الأخرى، فباستقراء تاريخهم وتاريخ مذاهبهم نجد فقراً مدقعاً في نتاجهم العلمي حتى فيما يتَّصل بالعقل، ولسنا بحاجة إلى أنْ يُلبِّس أحدهم علينا زاعماً ضياع تراثهم وفقدانه، إذ كيف يكون ذلك؟ وأين مَن اعتنق هذا الفِكرَ على مدار الأعصر والأزمان؟ ألم يكن لهم القدرةُ على حفظ تُراثهم وفكرهم؟
فإذا قيل: حرقت كتبهم، قلنا: إنَّ ما حدث من مثل تلك الحوادث من إحراق الكتب إنما هي حوادث فردية شاذَّة لا ترقى أنْ تكون ظاهرةً عامة تتمكَّن من ابتلاع تراثهم بكامله، وكذا نقول لهم: فإنَّ ما فُقِدَ من كتب علماء أهل السنة أضعاف ما فُقِدَ وضاع من كتبهم، ومع ذلك بقي تراثهم ونتاجهم شاهداً على غزارة علمهم وانتشار فكرهم.
ولكن الحقيقة التي لا يُناقضها شيء هو أنَّ العقل له حدود يصل عندها ولا يمكنه تجاوزها، فإذا ما أفرغ ما لديه من تصورات عجز عن الاستمرار والإتيان بجديد، فيقف عن الإبداع وهذا مُشاهَد في إبداعات الفلاسفة والمفكِّرين، حيث يصلون إلى مرحلةٍ مَّا، وبعدها يُفلِسون ولا يأتون بجديد، أمَّا النص، فدائماً عطاؤه لا حدَّ له.
[1] انظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، د. عثمان بن علي حسن (1/ 158).
[2] المخصص، ابن سيده (1/ 16).
[3] مجموع الفتاوى، (9/ 286-287).
[4] مفتاح دار السعادة، (ص 117).
[5] مجموع الفتاوى، (4/ 55-56).
[6] انظر: بيان تلبيس الجهمية، (2/ 535).
[7] انظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، (1/ 168)؛ التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه، د. عايض بن عبد الله الشهراني (1/ 129)؛ تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 37، 40).
[8] مجموع الفتاوى، (3/ 338).
[9] انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/ 138)؛ الصواعق المرسلة، (3/ 808).
[10] انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/ 78)؛ مجموع الفتاوى، (3/ 339)؛ الصواعق المرسلة، (2/ 459).
[11] إعلام الموقعين، (4/ 244-245).