عناية الأمم بتوظيف الأدب عبر العصور
أ. حسام الحفناوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد؛ فقد مَثَّلَ الأدب على مدار تاريخ البشرية حقلًا خصبًا لإثراء العديد من المجالات[1]، فأَحْسَن الكثيرُ من دعاة المِلَل والنِّحَل تَطويعه، وأَحْكَم جَهابذة العلوم والفنون توجيهه، وأَتْقَن غيرُهم من أصحاب المَطامع والطُّمُوحات امْتِطاءه؛ ففي مجال العقائد والأفكار:
حرص دعاة الحق على استخدام الأدب في تَحْبِيْر مادتهم الدعوية المعروضة على الناس؛ لما يُرْجى من أثره في جذب الانتباه، والأخذ بمَجامع القلوب.
ولم يَفُت أَساطينُ الأديان الباطلة، ودَهاقِنة المذاهب الضالة الإدلاء بدَلْوهم في ذلك، بل سابقوا أهل الحق إلى إتقان الفنون الأدبية المُنْدَرجة تحت المؤثرات الحِسِّيّة والمعنوية المختلفة التي يَدْأبون على تحصيلها؛ لتَكْثِير سَواد طوائفهم، والتأثير على نفسيات أتباعهم، والتغطية على ضعف مَضْمون مقالاتهم العَقَدِيَّة بسِحْر صياغتها الخَلَّاب.
ومعلوم أن الإغراق في المصطلحات الغريبة، والتركيبات الخطابية المعقدة يُشْعِر المستمعين المُغَرَّر بهم بغَزارة علم المُتَحَدِّث، ورَصانة عقله؛ فيُسْلِموا أَزِمَّة نفوسهم لمن يتوهمون عدم القدرة على بلوغ مبلغه في الفهم والمعرفة، يوجهها حيث يريد؛ فأكثر مُنَظِّروا الأديان الباطلة والمذاهب الضالَّة من الإغراق المذكور؛ ترسيخًا للشعور المُتَوَهَّم المشار إليه.
ولربما سَبَى أهلُ الضلال من عقول العامَّة بنُضْرة الشعر، وروعة النَّثْر أضعاف ما يَسْبِيه أهلُ الحق إذا عرضوا حُجَجه الشرعية وبَراهينه العقلية خالية من ذينك النُّضْرة والروعة؛ لتَعَلُّق كثير من العامَّة بالظَّواهر، وغَفْلتهم عن التحقيق في المَضامِين.
لقد تَبَحَّرت طوائفُ شَتَّى في دراسة علوم البلاغة، والعلوم العقلية اليونانية؛ سعيًا للأغراض آنفة الذكر، فأَوْغَل فيها أَحْبارُ النصارى؛ تأصيلًا لمعتقداتهم الباطلة حول الناسوت واللاهوت، وكان من أوائل المبرزين منهم في ذلك أوغسطين الملقب بالقديس، والذي يُعد أحد أكبر مُنَظِّرِي النصرانية المنحرفة التاريخيين، ويعتبره الكاثوليك، والبروتستانت بمثابة أب روحي لمذاهبهم، كما ينسبه بعض الأرثوذكس إلى أنفسهم، وقد كان إلى جانب إتقانه لعلوم البيان والخطابة والإقناع رأسًا في الفلسفة والمنطق[2].
وقد سار العديد من جَهابذة المِلَل الباطلة وأَساطِينها في نفس المَسار قبل أوغسطين، وبعده؛ فوَظَّفُوا سِحْرَ القول، وزُخْرُف الجَدَل في مَساعيهم الفاشلة لتَرْميم ما وَهِي من بُنْيان مِلَلهم المُتَهالِك، حتى صار من البَدَهي أن ترى في تراجمهم من بين أساتذتهم الفيلسوف، والمُتَمَنْطِق، والأديب، وأن تجد في مَسْرد مؤلفاتهم تصنيفًا فلسفيًا، أو مبحثًا منطقيًا، أو ديوانًا شعريًا.
وتَبِعهم على نفس الدَّرْب كثيرٌ من الفرق الضَّالَّة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، كالمعتزلة: الذين عُرف رأسُهم واصل بن عطاء بشدة فصاحته وبلاغته، وخُطَبُه شاهدة على ذلك، وكان الكثير منهم مُشْتَغِلٌ إلى جانب علوم اليونان العقلية بعلوم اللغة، ويُعد أبو القاسم الزمخشري من أشهر متأخري لُغوييهم، والذي لم يَتَوان عن توظيف تفسيره للقرآن في خدمة عقيدة المعتزلة[3].
والشيعة: الذين أكثر شعراؤهم من نَظْم القصائد للتَّباكي على أئمة أهل البيت المقتولين في كربلاء، وغيرها، والدندنة حول مظلوميتهم، وجعلوا ذلك التباكي سُلمًا لترسيخ الغُلو في نفوس الأتباع والأشياع، ولا زلنا نرى في عصورنا الحديثة حرص أكابر الرافضة على الحَذْلقة البلاغية في تسمية مصنفاتهم، مع سَخافة مضمونها المَبْتوت الصلة بأسمائها الرَّنَّانة.
وقد تَشَرَّب الشيعة الزيدية والإثنا عشرية مقالات المعتزلة في العقائد، وورثوا عنهم المباحث الجَدَلِيَّة المُسْتقاة من المنطق اليوناني، وفاق الإسماعيلية غيرهم من طوائف الشيعة في الإيغال في فلسفة اليونان، فضلًا عما شابهوا به أَحْبار الوثنيين وأهل الكتاب ورُهْبانهم من توظيف المؤثرات الحِسِّية المسموعة، والمشمومة، والمنظورة، والملموسة في تَخْدير عقول وقلوب مُرِيديهم، بالإضافة إلى ما اشتهروا به من التَّفَنُّن في ضُروب السِّحْر والشَّعْوذة، وجميعها فنون أخرى تضم إلى نَظائرها من الأنواع المتباينة لسِحْر القول والفعل.[4]
وأما في عصرنا الحديث؛ فقد صار الحرص على توظيف المصطلحات المُتَكَلَّفة سِمَة بارزة لأغلب المتكلمين في العلوم الاجتماعية، والتربوية، والسياسية، والنفسية؛ فتَفَنَّن السَّاسة، والمُرَبُّون، وعلماء الاجتماع، والنَّفْس في نَحْت المصطلحات التي يَتَعَذَّر على المستمع والقارئ فهمها؛ سعيًا وراء ما طَلَبَتْه الأصنافُ التي أَشَرْنا إليها سابقًا من المُغْرِبِيْن ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ ﴾ [الذاريات:53].
وأما في المجال السياسي:
فقد كان للأدب ـ عبر التاريخ البشري عمومًا والإسلامي خصوصًا ـ دور كبير في السياستين الداخلية والخارجية للدول والممالك، كما كان له أثر واضح في التغييرات السياسية الجَذْرِيَّة التي حَوَّلت مَسار الكثير من الأمم والشعوب.
ولئن كان القتال قدرًا محتومًا لكل أمم الأرض ـ إما دفاعًا عن نفسها أو توسيعًا لدائرة ممتلكاتها ـ فإن الجهاد الشرعي ـ بنوعيه الطَّلَب والدَّفْع ـ من أولويات السياسة الخارجية، والعلاقات الدولية لأمة الإسلام على مَرِّ تاريخها.
ولقد كان للفنون النَّثْرِيَّة والشِّعْرِيَّة مَفْعولًا عظيمًا في تَحْريض السَّاسة والمُساسِيْن على دَفْع العدو الصَّائل عن ديار المسلمين، ودمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، وتَبْكِيْت المُتَوانِيْن منهم عن ذلك؛ فلم يكن من الغرابة إذًا أن يحفظ مُحَرِّر القُدْس صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى ديوان الحماسة الحاوي لأشعار كثيرة في الحَضِّ على القتال، والمروءة، والنَّخْوة، والحَمِيَّة، بل كان لاستيلاء الجهاد على عقله وقلبه رحمه الله تعالى يظن أن كل فقيه يحفظها[5].
وعلى الضِّدِّ من ذلك؛ فقد كان أعداء الإسلام يوَظِّفون الأدب لخِدْمة مَشاريعهم العدائية للمسلمين بنفس الطريقة، ولربما استخدموا لذلك الغرض المشتغلين بالأدب العربي من غير المسلمين، سواء كانوا من العرب، أو المُسْتَعْرِبِيْن، أو ممن باع دينه بثمن بَخْس من أدباء المسلمين، وليس ببعيد عنا تلك القصيدة المشهورة التي أرسلها نقفور ملك الروم إلى الخليفة المطيع العباسي[6]، كما اشتهر استعانة هولاكو خان التتري بالأدباء العرب في صياغة رسائله إلى ملوك المسلمين وأمرائهم[7].
وغير خافِ على مُطالع للتاريخ الأندلسي صَنِيْع الشاعر اليهودي إسماعيل ابن النغريلة الغرناطي الذي ارتقى من وظيفة الكتابة لباديس بن حبوس مُتَمَلِّك غرناطة زمن الطوائف إلى منصب الوزارة، ووضع كتابًا في الطعن في الإسلام، ولا يزال اليهود يستلهمون أشعاره الدينية، ويَفْخرون بما تركه من تُراث أدبي[8].
ولم تكن وظيفة الأدباء في كيان الدولة المسلمة تقتصر على تقريب الملوك والأمراء والوزراء لهم؛ طَلبًا للمَدْح، والمُسامَرة، بل كانوا ركنًا رئيسًا في بناء الدولة، وكان يناط بهم إنشاء الرسائل الموجهة للولاة في أطراف المملكة، أو الممالك الحَلِيْفة، أو المُهادِنة، أو المُعادِيَة، مسلمة كانت، أو نصرانية، أو وثنية، وكذلك القرارات المَلَكِيَّة المتعلقة بشؤون مؤسسات الدولة المختلفة ومُوَظَّفِيْها، والطوائف المِهَنِيَّة، والعِرْقِيَّة، والدينية المُنْضَوِيَة تحت سُلْطتها، وقد خُصِّصَت مؤسسةٌ كاملة لهذه المهمة في فترات تاريخية كثيرة، سُمِّيَت بديوان الإنْشاء، ويُعَدُّ كتاب صُبْح الأَعْشى في صناعة الإنْشا الذي صَنَّفه العلَّامة المصري القَلْقَشندي أكبر موسوعة حاوية لمتطلبات هذه المؤسسة، ومُسْتلزماتها، والأدوات الواجب تَوَفُّرُها في العاملين بها، وتاريخها، وكثير من وثائقها المحفوظة عبر تاريخ أمة الإسلام في المشرق والمغرب.
كما كان الأدب مجالًا خِصْبًا للتصنيف في السياسة؛ إعلامًا لحكام المسلمين ومَحْكوميهم بحقوقهم، وواجباتهم، ونَقْدًا للظواهر الفاسدة المحيطة بالحياة السياسية في عصورهم، ورَغْبةً في تَقْويمها، فترجم ابن المُقَفَّع كتاب كليلة ودمنة عن الفارسية، وصاغه صياغة أدبية راقية، واعتنى به العلماء نَظْمًا، وترجمةً، وصَنَّف ابنُ ظَفَر الصِّقِلِّي سُلوان المُطاع في عدوان الأتباع، وكتب ابن عربشاه فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء.
ولم يكن تأثير الأدب في الحياة السياسية حكرًا على الشعوب الإسلامية وحدها؛ إذ لا يخفى ما لكتابات الروائيين والأدباء الغربيين فيما يُسمى بعصري النهضة والتنوير وما تلاهما من آثار عميقة في المُنْعَطَفات التاريخية للشعوب الغربية، وما تأثير كتابات ليو تولستوي الروسي، ودانتي الإيطالي عنا ببعيد.
وأما في المجال التعليمي:
فقد أَخْصَبَت المعرفةُ الأدبية وسائلَ نَشْر العلوم، ووَفَّرَت طُرقًا إبداعية متميزة لتيسير حِفْظها، كنَظْم العلوم في أَراجِيْز شِعْرِيَّة مُيَسَّرة، بل تحويل المصنفات العلمية التي قد يتسم بعضها بجفاف العبارة إلى مَنْظومات يَسْهُل على الطالب اسْتِظهارُها، ولم يُقْصَر ذلك الأسلوب التعليمي المُسَهّل على فَنٍّ علمي دون آخر، بل عُمِّمَت هذه الطريقة المُعِيْنة على الاسْتِذْكار على مختلف العلوم والفنون، فأَنْتَجَ ذلك كَمًّا لا يُحْصَى من المَنْظومات العِلْمِيَّة قريبة المأخذ في شتى المعارف العلمية.
بَيْد أن تدخل الصَّنْعة الأدبية في تقريب العلوم لم ينحصر في جانب النَّظْم الشِّعْري فحسب، وإنما شمل أيضًا إحسان سَبْك المُتُون النَّثْرِيَّة المختصرة بما يُعِين الطَّلَبة على حِفْظها، بل صاغ الجامعون بين الأدب والعلوم الأخرى تصانيفهم المُطَوَّلة صياغة أدبية راقية، تجعل منها مصادر للأدب العربي، مع كونها في الأساس مصادر للعلوم التي صُنِّفت فيها، ككتاب اليميني في أخبار يمين الدولة محمود بن سبكتكين المعروف بتاريخ العتبي؛ فهو مصدر أدبي وتاريخي في آن واحد، اعتنى الأدباء بشرح لطائفه الأدبية، ودقائقه العربية، وكشف مُشْكلاته، وضبط ألفاظه[9]، وعَدَّه المؤرخون أحد أهم مصادر سيرة فاتح الهند ومُحَطِّم الأصنام وأحد ملوك العدل محمود بن سبكتكين الغزنوي رحمه الله تعالى، ويندرج تحت هذا الباب مصنفات كثيرة، كالفتح القسي في الفتح القدسي الذي صَنَّفه العماد الأصبهاني في وصف فتوح السلطان صلاح الدين الأيوبي ووقائعه مع الصليبيين، وعجائب المَقْدور في أحوال تَيْمور لابن عَرَبْشاه، وأما تصانيف الأديب المُتَرَسِّل المؤرخ صلاح الدين الصفدي الجامعة بين الموسوعية التاريخية، والصياغة الأدبية؛ فهي كثيرة، وبعضها مُطَوَّلات كبيرة، وليس هذا بغريب على عالم جليل امْتَهَن كتابة الرسائل بديوان الإنشاء[10].
وأما المجال الأخلاقي التربوي:
فقد كان للأدب الحظ الأوفر في خدمته، من نَظْم القصائد الحاضَّة على التَّحَلِّي بطيب الخِصال المُحَذِّرة من التَّلَبُّس برَدِيء السَّجايا، بل صاغ غيرُ واحد من العلماء وَصِيَّته صياغة شعرية، ولا يفوتنا في هذا المقام الإشادة بإبداع أصحاب المَقامات، الذين أَحْسنوا نَقْدَ الظواهر المُسْتَنْكَرة في مختلف طبقات وفئات مجتمعاتهم التي عاصروها من خلال سِحْر فن المقامة.
وفي الختام:
فإن مجالات توظيف الأدب في الخير والشر كثيرة، وما ذكرتُه في هذا المقال هو بمثابة الخطوط العامة والإشارات السريعة لبعض تلك المجالات، وحَرِيٌ بكل أمة تريد النهوض أن تُوْلِيَ آداب لغاتها عناية كبرى، وأن تُسَخِّرها لخدمة مشاريعها النَّهْضَوِيَّة، والله الموفق.
[1] يقول الرافعي في وحي القلم (3/285): (وإنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت، يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلى صناعة من طرب الفكر).
[2] انظر: تاريخ الفكر الديني الجاهلي لمحمد إبراهيم الفيومي (ص227،226).
[3] انظر: شرح الكافية الشافية لابن مالك (3/1531).
[4] كنت قد تحدثت بتوسع في مقال منشور على شبكة الألوكة بعنوان (الخداع البصري قبل عصر الليزر) عن حرص أحبار النصارى ورهبانهم على التأثير في نفوس أتباعهم بالمؤثرات المتنوعة مسموعة، ومرئية، ومشمومة، وملموسة،
[5] انظر: سير أعلام النبلاء (15/413).
[6] انظر: طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي (3/204ـ222).
[7] انظر على سبيل المثال: رسائل هولاكو للملك الناصر صاحب حلب في شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي (7/471ـ473).
[8] يذهب الدكتور إحسان عباس إلى كون ولده يوسف هو المصنف في الطعن في الإسلام. انظر: مقدمته لكتاب الرد على ابن النغريلة لابن حزم ضمن رسائل ابن حزم (3/19،18).
[9] انظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (2/2053،2052).
[10] انظر: مناهج التأليف عند العلماء العرب لمصطفى الشكعة (ص483ـ490).