حديث من باب الفوات والإحصار
الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
حديث من باب الفوات والإحصار
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قد أُحصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه حتى اعتمر عامًا قابلًا. رواه البخاري.
المفردات:
الفوات: أي عدم التمكن بعد الإحرام من أداء الحج لذهاب وقته.
والإحصار: قال الحافظ في الفتح: المشهور عن أكثر أهل اللغة منهم الأخفش، والكسائي، والفراء، وأبو عبيدة، وأبو عبيد، وابن السكيت، وثعلب، وابن قتيبة، وغيرهم أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدو فهو الحصر، وبهذا قطع النحاس، وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف، قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 273]، وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدو إياهم. اهـ.
وقد عكس بعض أهل العلم، فجعل الإحصار خاصًّا بالعدو مستدلًّا بقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [البقرة: 196]، وكان ذلك في قصة الحديبية حين صد المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، فسمى الله صدَّ العدو إحصارًا.
وقد مال البخاري رحمه الله إلى التعميم فقال: باب المحصر وجزاء الصيد وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ [البقرة: 196]، وقال عطاء: الإحصار من كل شيء بحسبه. قال أبو عبدالله: (حصورًا): لا يأتي النساء. اهـ، ومادة الحصر تدور على معنى المنع وعدم القدرة على الانتشار.
قد أُحصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مُنع من الوصول إلى البيت عام الحديبية، حيث صده المشركون عنه.
حتى اعتمر عامًا قابلًا: أي أدى العمرة في العام القابل بعد العام الذي صُدَّ عن البيت فيه، وقد سميت العمرة التي اعتمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل عمرةَ القضية.
البحث:
قول ابن عباس رضي الله عنهما: فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه. الواو فيه لمطلق الجمع لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا؛ لما تقدم في الحديث السادس والعشرين من الباب السابق ما رواه البخاري عن المِسْور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "حتى اعتمر عامًا قابلًا" مشعر بأن من أُحصِر وتحلل بالإحصار وجب عليه قضاء ما تحلل منه.
قال البخاري في صحيحه: وقال روح عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك، فإنه يحل ولا يرجع، وإذا كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله، وقال مالك وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ولا قضاء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت. ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا أن يقضوا شيئًا، ولا يعودوا له، والحديبيةُ خارج الحرم. اهـ.
قال الحافظ في الفتح: قوله: "وقال مالك وغيره" هو مذكور في الموطأ، ولفظه: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحلُّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئًا، ولا أن يعودوا لشيء، وسئل مالك عمن أحصر بعدوٍّ، فقال: يحل من كل شيء وينحر هديه ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء. اهـ.
وقد نقل أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية رجال معرفون، ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بألا يتخلفوا عنه، وذكر أنه إنما سميت عمرة القضاء والقضية؛ للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة.
وقد ذكر الحافظ في الفتح عن ابن المنذر أنه روى من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من أحرم بحج أو عمرة ثم حُبِس عن البيت بمرض يجهده، أو عدو يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة فلا قضاء عليه. اهـ.
وقد أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحو هذا، وفيه: فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه، والله أعلم.
الألوكة
....................