إدارة الوقت أم إدارة الذات؟
د. قاسم عبدالله التركي
رَحِمَ اللهُ شوقي حينَ قال:
دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوانِي
لقد ظهرَ اهتمامٌ خاصٌّ خلال العقدين الماضيين بموضوع "إدارة الوقت"؛ ذلكَ أنَّ الوقت مهمٌّ جدًّا في حياةِ الأمم والشعوب، وما تاريخُ الأمم قاطبة إلا فتراتٌ زمنية متعاقبة في الحياة الإنسانية، وقد بيَّن لنا الخالق - عزَّ وجلَّ - قيمة الوقت في كتابه العزيز؛ إذ قال - سبحانه وتعالى -: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2]، فقد أقسمَ - جلَّ جلالُه - بالوقت لأهميته، ولأنَّ الوقت هو الحياة؛ لذا ينبغي الاهتمام به، انطلاقًا من الفرد، إلى المؤسسة أو المنظمة، إلى المجتمع، فالدولة، فالأمم.
والوقت في الإدارة موردٌ هامٌّ؛ فهو رأس المال للمدير، إنْ أحسنَ استثماره واستغلاله، أدَّى مهامه على الشكل المطلوب، وكذا الأمر بالنسبة لكل الناس؛ لذا فإن إدارة الوقت تتمثل انطلاقًا من إدارة الذات، وإدارة الأعمال بما يحقِّق الأهدافَ المطلوبة ضمن فترة زمنية محدَّدة.
وللوقت خصائصُ يتَّصف بها تُميّزه عن غيره من الموارد، ذلك أنه ينقضي بسرعة، ويمُّرُّ - كما يقال - مرَّ السحاب، فنحن - بكل ما أوتينا من قوَّة - لا نستطيع إعادةَ الزمن، أو إيقاف عقارب الساعة عن الدوران، كما أننا لا نستطيع بيع الوقت أو شراءه، فهو موردٌ محدَّد للجميع.
وتتفاوت أهمية الوقت، واستثماره، وإدارته من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن بيئة إلى بيئة، بحسب مدى إدراك معنى الحياة وعناصرها، وحسب مدى الارتقاء العقلي والحياتي والمعيشي؛ فهذا ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - يقول: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربَتْ شمسُهُ، نقصَ فيهِ أجلي، ولمْ يزِدْ فيهِ عملي!".
وهذا الشاعر العربيُّ أبو تمَّام، تصادفه عاصفةٌ ثلجية في طريق سفره، أجبرتْه على الجلوس بقريةٍ؛ لصعوبة المتابعة، وانقطاع الطرق، فعرفَ كيف يستثمر وقته خلال أيام جلوسه، فألَّفَ كتابًا من أروعِ ما كُتِبَ عن الشعر العربي "كتابَ الحماسة".
وممَّا تقدم يتضح لنا أنَّ إدارة الوقت لا تعني بالضرورة إنجازَ الأعمال بوقت أسرع، ولكنَّها تعني القدرة على إنجاز الأعمال بشكلها الصحيح، وذلك بالإتقان، والإخلاص، والوعي بما نقوم به من أعمال.
وإنَّ من فوائد إدارة الوقت وتنظيمه على الصعيد الشخصي: ثمراتٍ تتمثلُ في حسن التعامل مع الحياة وعناصرها، وفاعليةِ الإنجاز، وعدمِ تراكم الأعمال أو تقليل تراكمها؛ ممَّا يُقلِّل العبءَ النفسي والجسدي، وإنجازِ قدرٍ أكبرَ من الأعمال والمهمات بالمقارنة مع حالة الإنجاز دونما تنظيمٍ للوقت، وضمانِ العدالة في توزيع الوقت بين النفس والأهل، والأصحاب والأعمال، وغير ذلك.
ولعلَّ من أهمِّ الفوائد على الصعيد العام: احترامَ أوقات الناس، والاستفادة القصوى منها لصالح الأمة، وعدم ذهاب بعض الأوقات هدرًا دونما فائدة، وزيادة الدخل وتحسين مستوى المعيشة لدى الناس، وذلك بأن يكون أداء العاملين في القطاع العام مُثمرًا وفعَّالاً.
وتنعكس إدارة الوقت على الحياة الاجتماعية للناس، فمثلاً تقتضي عملية إدارة الوقت واحترامه ألاَّ يذهب إنسانٌ لزيارة آخرَ إلا بعد قطع موعد مسبق، وحسن استثمار مراحل الحياة لدى الناس، وغالبًا ما يدفع تنظيم الوقت إلى التخلص التدريجي من الرتابة والروتين في النواحي العملية.
ولكن، قد يتساءل أحدنا فيقول: ما معوقات إدارة الوقت؟
من خلال نظرة عامة في حياة البشر، وفي آفاق الحياة، وفي كافة المجالات العديدة التي تبرز فيها شؤون الأعمال والمهن والوظائف، نلمس أنَّ هناك أسبابًا ومعوقاتٍ عديدة تقف حجر عثرة، وتعيق كافة الترتيبات الزمنية، وهذه الأسباب والعوامل بعضها يتعلَّق بالإنسان نفسه، وبعضها الآخر يتعلق بالأجواء والظروف المحيطة به، وأخرى تكون خارجةً عن إرادة الإنسان ومقدوره.
ومن هذه الأسباب والمعوقات نذكر الآتي:
- قلة إدراك أهمية الوقت على الصعيد الفردي (الشخصي)، وعلى الصعيد الجماعي العام، ويدلُّ على ذلك اصطفاف الناس في طوابير طويلة؛ ممَّا يؤدي إلى هدر كبير في أوقات البشر وطاقاتهم.
- الطابع الروتيني والنمط الحياتي السائد؛ ممَّا يؤدي إلى الاستسلام لهذا الطابع، والجمود تجاهه، وعدم المحاولة للتطوير أو الخروج عن طوره، وكأنه إطارٌ حديديٌّ مقدَّسٌ لا يُمكن إعادةُ النظر فيه.
- ضعف الإحساس بمرور الوقت؛ وذلك لاعتياد مرور الوقت دونما رقيب أو حسيب، والثمن البخس للوقت عند بعض الناس، بالإضافة لعدم وجود أهداف محدَّدة يسعى الإنسان لتحقيقها.
- قلة وجود التوعية الكافية لأهمية الوقت، وعدم بروزه كقضيَّة مهمَّة.
- وجود كثير من التعقيد والتأخير في وسائل المواصلات والاتصالات.
- التردد في شخصية الإنسان؛ إذ يُعتبر التردُّد مشكلةً شخصية في حياة الإنسان، وهو من العوامل التي تؤدي إلى ضياع وقته.
- الانفراد بالرأي وعدم المشورة، وتكون العاقبة فوضى الوقت، حيث يشغل الإنسان بثانويات الأمور.
- عدم تقدير المرء لجهده وطاقته؛ فقد لا يعرف المرء جهده وطاقته، ويظن أن لديه القدرة على عمل كل شيء، ويأخذ في العمل، ويصادف أنه لم ينجز شيئًا، فيضيع وقته.
- المعصية وإهمال النفس؛ فوقوع الإنسان في المعصية قد يدفعه لإهمال التوبة؛ بل قد يهمل تزكية نفسه التي هي سبب بركة الوقت وامتداده أو اتساعه.
- الغفلة عن واقع الأعداء يوقع في إهمال الانتفاع بالوقت.
- الغفلة عن عواقب فوضى الوقت الدنيوية والأخروية عن بال المسلم، تجده يهدر وقته ولا ينتفع به.
ما الحلُّ؟
يُعتبر ضياع الوقت في حد ذاته مشكلة، وهو لا يخضع لتعريف واحد، أو مفهوم واحد؛ فقد يكون مشكلة بالنسبة للبعض، بينما البعض الآخر لا يعتبره كذلك، وما كان ضياعًا للوقت في الشهر الماضي قد يصبح الآن توظيفًا جيدًا للوقت؛ فقد نقول عن البعض بأنه ضيَّع ساعاتٍ طويلةً يشاهد التلفاز، وهذا مضيعة للوقت، فيأتي آخر ويقول: ليس الأمر كذلك، أنا استفدتُ من البرامج، واكتسبتُ معلوماتٍ جديدةً، وازددتُ ثقافةً وتنويرًا، بالإضافة إلى التسلية؛ فالمفهوم عن ضياع الوقت لا يخضع لمعيار واحد.
وإذا كنَّا قد عرفنا أسباب ضياع الوقت فيما تقدَّم، فمن الجدير بنا أن نقول: إنَّ الوقت ثروةٌ ليس للفرد المسلم فقط؛ بل هو ثروةٌ وطنية، فيه الإنجاز، وفيه البناء الحضاري الذي يحفظ للأمة كيانها ووزنها.
إنَّ إدارة الوقت باتَتِ الشغلَ الشاغل للمديرين، ورجال الأعمالِ، والقادةِ، والمعلمينَ، والطلابِ، وجميع البشر على سطح البسيطة.
وأحْسَبُ - في الختام - أنهُ من المفيد لنا أن نقرأ بإمعان قول الشاعر:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِدًا نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ البَذْرِ