مع بداية بزوغ عصر النفط في المنطقة العربية، بدأت الكثير من التحولات الثقافية مقترنة بالتحولات الاقتصادية، حيث واكب الرخاء المادي حراك ثقافي، ليس فقط في الدول المنتجة للنفط، بل أيضا في سائر الدول العربية، التي اعتمدت عليها الدول النفطية في تصدير جحافل من العمالة التي ساهمت في التعمير ونقل المجتمعات من مرحلة تشبه البداوة إلى مدن تضارع المدن العالمية رونقا وجمالا، وشكلت التحويلات المالية للعمالة العربية دورا رائدا أيضا في تطوير بلادها الأم، فبدأت القرى تعرف البيوت الإسمنتية متعددة الطوابق، بعدما كان الطوب اللبن هو السائد، وانتشرت ظاهرة امتلاك سيارة خاصة حتى في الأرياف، وتأنق البسطاء في ملبسهم ومطعمهم وحتى حفلات زواجهم وسائر شئونهم.
ولما كانت المادة المعرفية في المنطقة ليست بقضية جوهرية ولا إستراتيجية، بل هي شأن ترفيهي لا يرتبط بنهضة على أرض الواقع إلا ما ندر .. بدأ مع الرفاهية المادية على اختلاف درجاتها حراك معرفي وثقافي، ففي الماضي كان جمهور الكادحين كُثر، والبطون الخاوية لا يعنيها ثقافة بقدر ما يعنيها سد الرمق، أما الرشوة والمحسوبية والأبواب الخلفية فكانت وما زالت قادرة على تجاوز المسافات وتوفير العناء في الدراسة والتحصيل والتثقيف، لذلك ظلت الوجبة المعرفية في العالم العربي شأن المترفين وأصحاب الخبز اللين الذين يجدون في الثقافة نوعا من التسلية والترفيه وإمتاع الذهن والوقت.
ومع تعطش الناس للدين الإسلامي انتشر الكتاب الإسلامي بدرجة باهرة، وتصدرت مبيعاته معارض الكتب لسنوات مديدة، بل يمكن اعتبار اكتساح الكتاب الديني نوعا من التميز الفريد للمنطقة بخلاف الكتاب السياسي الذي تسلسل بقيود السلطة التي حذرت على الكتاب والمفكرين التطرق لهذا المجال، ورسخت في قناعات الناس أن الخوض في السياسة نوعا من اللعب بالنار، حتى اشتهر المثل الذائع الصيت «من السياسة ترك السياسة»، أما كتب الرواية والفكر والفلسفة وغيرها فيمكن القول أنها لم تستطع أن تروي الظمأ المعرفي كما الكتب الإسلامية التي كانت النفوس تتشوق إليها بحكم النشأة والتربية المحافظة.
وواكب انتشار الكتاب ثورة في عالم المجلات خاصة الدينية والأسرية والاجتماعية، وحققت نسب توزيع عالية وانتشار رائع، وساعدتها الإعلانات على صفحاتها في التدعيم المادي الذي أتاح لها رونق الطباعة ورصانة المحتوى باستجلاب خيرة الكتاب والمختصين، ورصد مكافآت مجزية لكل المشاركين في صدور الأعداد سواء أكانت شهرية أم أسبوعية، ثم وجدنا المسابقات الهادفة على صفحات هذه المجلات التي رصدت لها آلاف الدنانير والدراهم، الأمر الذي جذب لها الكثير من المتابعين والمطالعين والمشاركين والمعلنين بالتبعية.
وكما أن دوام الحال من المحال، وكانت عجلة التغيير لا تتوقف، خاصة في العالم الذي بات يلهث وراء المعرفة، حتى يمكن القول أنها «حرب معرفية» ضروس، قزمت أقواما وضخمت آخرين، وأعادت الصياغة العالمية وترتيب الدول وفق تقدمها المعرفي المستلزم للتقدم التقني بالضرورة.
ظهرت الإنترنت .. وكانت في بدايتها أسطورة الأساطير، وأتذكر أنني إبان ظهورها كنت من المستمعين للإذاعة البريطانية التي كانت وقتها المصدر الوحيد الذي تتلمس منه أخبار تكسر حدود التعتيم الإعلامي المفروض على بلادنا، والذي لا يعرف غير تمجيد القائد الملهم، والحديث عن إنجازاته هو وحكومته الموقرة !!.
وفي برنامج استفساري شهير، بعنوان «بين السائل والمجيب» سأل أحدهم: ما هي الإنترنت؟! وأجابه أحد المختصين نصا بأنها: محيط من المعلومات والمعارف، حتى أنك يمكن أن تتعرف من خلالها على طريقة قيادة الطائرة مع رسومات توضيحية لذلك كأنها تحاكي الحقيقة.
ورويدا رويدا تخللت الإنترنت الشركات والمصانع والبيوت .. وبدأت تحولات جذرية تجتاح العالم، فتقلص دور الإعلام الورقي، واستخدم الناس البريد الالكتروني، وصار البسطاء يملكون بريدا وأثنين وثلاثة، وكسرت الإنترنت الحواجز المعرفية، وتطرقت للمسكوت عنه وغير المسكوت عنه، بل وجد الناس متنفسا فوريا للكتابة والتعليق والنقد والبوح.
ورويدا رويدا انسحب الكتاب الورقي بكافة أنواعه من حلبة السباق المعرفي، خاصة في عصر رقمي يبحث الجميع عن المعلومة السريعة والموجزة، وفقد المؤلفون والكتاب مصدرا ماليا كانوا يعيشون منه حياة كريمة، تمكنهم من مزيد من البحث والإفادة والاستفادة.
ورويدا رويدا انسحبت المجلات من المنافسة، وفقدت القارئ الذي لا يصبر على انتظارها كل شهر أو أسبوع، في الوقت الذي بين يدي فأرة الكمبيوتر طوفان معرفي هادر ومتنوع، وبفقدان القارئ تلاشت الإعلانات التي كانت المورد المالي الذي يدعم مسيرة المطبوعات الورقية، ووجد كثير من فريق تحرير المجلات والكتاب أنفسهم بلا مورد ولا عائل بعد توقف المجلة عن الصدور، أو على الأقل تحولها إلى النسخة الالكترونية المجانية بدلا من النسخة الورقية.
أما مواقع الإنترنت فهي «مجانية» بامتياز .. مجانية لفريق العمل بالدرجة الأولى لأن سعة الموقع المعرفية جبارة، تطالع فيه كل لحظة عشرات الأخبار والمقالات والتقارير .. ولا يمكن توفير ميزانية مالية قادرة على استيعاب هذه الجيوش من الأقلام المشاركة.
و «مجانية» للمتصفح الذي بات يتجول هنا وهناك، ولا يكلفه الأمر سوى اشتراك شهري لخط إنترنت تتسابق الشركات في تخفيض سعره وتحسن سرعته.
هذا «الفضاء المعرفي المجاني» -في أغلب أحواله- أحدث أيضا تصدعا معرفيا في إطاره العام مجملا، فمع غياب الدعم المادي لا تجد باحث يضني ليله ويكد نهاره في إخراج عمل معرفي ثقافي رصين، وصار بذل الجهد على المتطوعين والهواة وأصحاب الترف الثقافي، وانتشرت ظاهرة الضحالة المعرفية، حتى أن المتصفح قد يقرأ عشرات المقالات دون أن يخرج بشيء يذكر.
«حصري ومجاني» .. بات شعار مواقع الإنترنت الذي يجمع بين متضادين، ويقرب متنافرين، المواقع لا موارد مالية عندها، وفي ذات الوقت تبحث عن جهد رصين ومعرفة دسمة، وهذا لا يتأتى إلا على أكتاف مخضرمين لهم التزامات مادية مرهقة في مجتمعات الغلاء فيها لا يرحم.
وكما استطاعت الإنترنت أن تبني طاهرة «الطوفان المعرفي» بالمقابل طعنت المعرفة وصُناعها في مقتل، الذين انسحبوا بدورهم، وصارت المواقع بعضها عالة على بعض، والكل يقتبس من الكل، أما الحصري والرصين فمقتصر على مواقع تشرف عليها مؤسسات حكومية تضمن لها التمويل المالي غير الربحي، أو مؤسسات وقفية وجمعيات خيرية.
تلك إشكالية المعرفة الالكترونية الهشة أو الثورة المعرفية المترفة التي يتبناها في مجملها جيل الشباب الذي يفتقد عموما للمهارة والخبرة والعمق العلمي، أو شريحة المرفهين الذين لا يهمهم سوى أن تظهر خاطرته أو تدوينته مرفقة بصورته الشخصية على عدد من المواقع، في نوعا من إرضاء الذات الثقافية، والشعور بأنه ذو مكانة ووجاهة معرفية.
د/ خالد سعد النجار
[email protected]