الخطبة الأولى
قال خباب بن الأرت ط : شكونا إلى رسول الله ق وهو متوسد بردة له، في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ إن خباباً ط ومن معه قد أقضهم حينها واقع الأمة, قد أقلقهم شدائدها, ولم يروا في الأفق ما يدعوا للتفاؤل, فطلبوا منه ; أن يدعو لهم, فقال: قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»
معشر الكرام: أحداث الحياة وشدائد الأحداث وأحوال الأمة قد تورث المرء لوناً من اليأس, ويصيبه طائفٌ من القنوط, ويغيب عنه استحضار التفاؤل.
في كل يوم تصبحنا المآسي وتمسينا, وتمر بنا المكدرات أو تحل بوادينا, في بلاد الشام حيث البلاء قد طال, والقتل والحصار ما زال, في العراق حيث الدم سيال والدمع رقراق, في اليمن حيث الوضع مازال يخوض, ولم تنكشف الفتن, في فلسطين, في بورما, وفي أماكن متعددة يسام المسلمون سوء العذاب, وعلى شق آخر لا زلت ترى جلد الفاجر وعجز الثقة, وتسلط المفسد على المصلح, كل هذا يحزننا, ونتسائل معه هل من فجرٍ لهذا الظلام, أما من عزةٍ تنفض الركام, ومع كل هذا فنحن على يقين.
يا عباد الله: حين تتأزم الأمور وتتابع الأخبار المكدرة وتشتد الأحداث, قد يبرز للبعض داء القنوط واليأس, والقنوط هو قاتل الرجال ومحطم الآمال ومزلزل الشعور ومكدر العزائم.
وهنا تأتي الحاجة للتـأكيد على أمرٍ هو الترياق للهمّ, والطارد لسوء الظن, إنه التفاؤل وحسن الظن
أجل ففي غمرة الواقع ينبغي على المرء أن ينظر للأحداث التي تمر به, والواقعِ الذي تعيشه أمته, والصراعِ بين أهل الحق والباطل, أن ينظر لذلك كله بعين التفاؤل
كيف لا, والتفاؤل يدفع الإنسان لتجاوز المحن، ويحفزه للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب.
والمتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنه يتطلع للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يتبع كل عسر.
وفي حياة محمد ق خير مثال للتفاؤل رغم شدة الأحداث
تسأله مرة عائشة " هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب-إنه يريد هداية الناس ويقلقه صدودهم, لكنه ما زال مع كل هذا متفائلاً-، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي -ق-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا"
وفي يوم الأحزاب حين تكالب عليه الخصوم من كل صوب, وكان المرء لا يأمن أن يبعُد لقضاء حاجته, كان المصطفى ق قد امتلأ قلبه تفاؤلاً, نقل البيهقي في دلائله وقال: لما اشتد البلاء على النبي ق وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله ق ما فيه الناس من البلاء والكرب، جعل يبشرهم ويقول: والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً، وأن يدفع الله ﻷ إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ﻷ.
فقال رجل ممن معه لأصحابه: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب الغائط، والله لما يعدنا إلا غروراً.
وفي تاريخ الإسلام عبرة, فقد جاء الصليبيون إلى دِيارِ الإسلامِ في ألفِ ألفِ مقاتلَ، ودخلوا بيتَ المقدسِ، وصنعوا فيهِ ما لا تصنعهُ وحوشُ الغابِ، ولبثوا فيه أُسبوعًا يقتلونَ المسلمينَ، حتى بلغَ عددُ القتلى أكثرَ مِنْ ستِّينَ ألفًا؛ منهم الأئمَّةُ والعلماءُ والمتعبِّدونَ والمجاورونَ, وساعتَها ظنَّ اليائسونَ ألاَّ عودةَ لبيتِ المقدسِ أبدًا إلى المسلمينَ.
كَمْ طَوَى الْيَأْسُ نُفُوسًا لَوْ رَعَتْ مَنْبَتًا خَصْبًا لَصَارَتْ جَوْهَرَا
وسنوات والبلاد تعود, والمسلمون هناك يظهرون من جديد, في بغداد حيث التتار عاثوا في البلاد فساداً, وظُنَّ أن لا قائمة للإسلام, وسنوات والمسلمون ينتصرون, بل ويدخل كثير من التتار الإسلام
قال ابن القيم: أخبر شيخُ الإسلامِ الناسَ والأمراءَ, سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتارُ وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا، فيقال له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا, أي يقيناً جازماً، لا احتمالاً أو تردداً.
ولما طُلِب إلى الديار المصرية، وأريد قتلُه بعد ما أنضجت له القدور، وقُلِّبَتْ له الأمور، اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك، فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا، قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي، ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس، سمعته يقول ذلك, وهكذا يكون التفاؤل, وهذا ما وقع.
يا كرام: وأنتم ترون تكالب الأعداء على المسلمين, وأنتم تتابعون قضايا الاضطهاد هنا وهناك, وأنتم تقابلكم أخبار تضييق على أهل الإسلام في أماكن متعددة, وأنتم ترون وتسمعون كل هذا, ينبغي أن يمتلئ القلب بالتفاؤل.
لماذا؟ لأن النبي ق يحب الفأل, فنحن نحب ما أحب
نتفائل لأن ذلك يشرح النفس ويسعد القلب ويزيل الكرب, نتفائل, لأن التشاؤم من الشيطان ليحزن الذين آمنوا
ومالنا يا مسلمون لا نتفائل, ونحن نرى تباشير العزة, ونحن نرى بوادر الخير برغم الشر المراد, ونحن نعاين بواكير الفرج, برغم الشدائد.
أجل, فالناظر لحال المسلمين اليوم يرى صوراً عديدة تدعوه للتفاؤل, برغم ما في الجسد من آلام وجراح, نعم عندنا تقصير والعدو قد تجبر والآلام مريرة, ولكن برغم الجراح فإن المسلم يرى من البشائر في الأمة ما يبهج الخاطر
أولسنا اليوم نرى كثرة الداخلين للإسلام في كل بلد في كل يوم, برغم ضراوة الهجمات وحملات التشويه للدين
لماذا لا نتفائل ونحن نرى سقوط زيف العدو من الكافرين, واستبانة سبيل المجرمين, وتهاوي الشعارات وبقاءَ راية الدين, بعدما كان البعض لا يعرف حقيقة عداوة الكافرين, وبعدما فتن كثير من المسلمين لعقود بشعارات القومية والعروبة بل والشيوعية وغيرها, فقبل ثلاثين سنة لم تكن في ساحة المقاومة في فلسطين مثلاً راية تعرف, سوى رايات الشيوعيين ودعاة القومية العربية، وأشباههم مع بعض عملاء الصهيونية.
واليوم لا تحس لهذه الشعارات في بلاد الإسلام أثراً ولا تسمع لها ركزاً.
لماذا لا نتفائل ونحن نرى حلقات القرآن في كل بلاد المسلمين تخرج أعداداً من حفاظ وحافظات القرآن بعدما كان لا يوجد في البلد إلا نوادر من الحفاظ, وليس هذا في بلادنا وحدها بل في سائر بلاد المسلمين, ففي كل صقع من بلاد المسلمين مدارس وبرامج تبشر بعودة الجيل للقرآن حفظاً, ومدارسة وتفهماً.
لماذا لا نتفائل, ونحن نرى إقبالاً من الشبابٍ إلى الخير والاستقامة برغم حرب الشهوات المستعرة, والشبهات الخطافة, لقد وقف أحد العلماء الكبار محاضراً في إحدى المدن من هذه البلاد قبل بضع سنوات, فلما رأى الأعداد الكبيرة قال الحمد لله, ثم أجهش بالبكاء وقال مخاطباً الجموع التي امتلأ بها المكان: لقد أتيت لهذا المكان قبل أكثر من ثلاثين سنة, فما رأيت أحداً يصلح أن يؤم الناس, واليوم أرى هذه الجموع المشرقة, وحينها جاءني آباء يشكون أبنائهم وانحرافهم, واليوم جائني أبناء يشكون أولئك الآباء أنهم يمنعونهم من بعض الخير, إن البشائر عديدة والمستقبل للدين.
إذا فالواقع يصدق الشرع, ويقول: إن الدين منصور، ألا بعداً لليأس والتشاؤم، فإن الذي يخرج اللبن من بين الفرث والدم قادر على إخراج النصر من رحم البأساء والضراء.
ومع كل هذا يا كرام: فالتفاؤل يحمد إذا تبعه عمل, التفاؤل المطلوب هو الذي يولِّدُ الهمة ويبعث العزيمة ويجدد النشاط.
ليس التفائل يقعدنا عن العمل, ويثبطنا عن الجهد, ويخدرنا بدعوى أن الأمور إلى خير, فهي إلى خير بإذنه سبحانه إذا بذلنا, ولنصرة ديننا, ولنهضة أمتنا عملنا
جماع القول: أننا في معترك المصائب ينبغي أن نوقِد جذوةَ التفاؤل، وأن نعِيش في أمل وعمل ودعاء وصبر، نرتجي الخير ونحذر الشرّ, ونحسن الظن بالله, وهو عند ظن عبده به, وقد أحسن الشيخ ابن باز : إذ قال: هذهِ الامةُ تغفو ولكنَّها لا تنامُ، وتمرضُ ولكنَّها لا تموتُ.
رغم الجراح ورغم أنّات الألمْ متفائلون وإن تجبّر من ظَلَمْ
رغم الدجى يكسو جوانبَ أفْقنا متفائلون بما يُزيح دُجى الظُلَم
رغم المصائب والكروب فإننا متفائلون بفجرِ يُسرٍ في القمم
لا نستكين ولا نلين لجرحنا أبداً ففينا روحُ دهرٍ من هِمَم
متفائلون بربِّنا متفائلون بصبرنا متفائلون بلا سأم
والله ما هلك الأنامُ إذا اتقوا قسمًا برب العرش يتبعه قسم
اللهم صل على محمد
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد: التفاؤل عباد الله باب واسع, إنه ينبغي أن يستصبحه المسلم عند كل باب من أبواب الشدة, حين تتعثر أمورك, وتضيق بك السبل, حين تعيش الفقر والمسغبة, تفائل بقرب الفرج, وما عند ربك قريب, واذكر قوله ق " مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ" رواه الترمذي
حين تمر بك مصيبة, أوْ ضيقٌ أوْ غمٌّ، فتفائل وأحسن بربك الظن, وقد قال المصطفى ق: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا "رواه مسلم
حين تصاب بالمرض المخوف والداء المستعصي فأحسن الظن بالرب العلي, فقد شفى قبلك أيوب بعد أن طال بلاؤه وعجز الطبيب عن علاجه.
حين يطول عقمك, وتغلق أبواب الأطباء دونك, وتتقدم سنك وأنت تتمنى الذرية, فأحسن الظن بربك, فالذي رزق زكريا ; على كبر قادرٌ, وكم من امرئٍ عاش تجربتك فجاءه الفرج من حيث لا يحتسب.
حين ترفع لله دعواتك في أي شيء, فتفائل وأحسن بمولاك الظن, فما أقرب الإجابة, واذكر قولة الرسول الكريم " ادعوا اللهَ وأنتم موقنونَ بالاجابةِ" وإن لم تجب فأحسن الظن فلعل ما صرف عنك خير مما تطلب, وقد قال بعض الصالحين: إنَّا لندعوا اللهَ مرةً، فإنِ استجابَ لنا فَرِحنا مرةً، وإنْ لمْ يستجبْ لنا فَرِحنا عَشَرَ مراتٍ، لأنَّ الاولى باختيارِنا والثانيةَ باختيارِ اللهِ.
وحين تتوب لربك فتفائل بقبول توبك, وأحسن الظن بخالقك, فمهما كثرت الذنوب, فإن الله يغفر ويتوب, واذكر أنه نادى المسرفين بالذنوب, المكثرين من المعاصي, وفتح لهم باب الرجاء والعودة فقال (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
إذا اشتمَلَتْ على اليأسِ القلوبُ وضاقَ لِمَا به الصَّدْرُ الرحيبُ
وأَوْطَأتِ المكاره واطمأنّتْ وَأَرْسَتْ في أماكنها الخطوب
ولَم تر لانكشافِ الضُّرِّ وَجْهَاً ولا أغنَى بحيلَتِهِ الأريبُ
أتاك على قنوطٍ منك غَوْثٌ يمنّ به اللطيفُ المستجيب
كذاك الحادثاتُ إذا تَنَاهَتْ فمَوْصُولٌ بها الفَرَجُ القَرِيب
ألأ فطوبى لقلبٍ عُمر بالتفاؤل, وغُمِرَ بحسن الظن, وامتلأ باليقين, ورضي بتدبير اللطيف الخبير, فاللهم املأ قلوبنا بذلك, وأسعد نفوسنا بنصرة دينك, واجعل عاقبة فألنا خيراً لنا في ديننا ودنيانا.
واجعل عاقبة فألنا تفريجاً لكرباتنا, وإجابة لدعواتنا وكشفاً لابتلائاتنا.