أهمية العلم بالأسماء والصفات
الشيخ وليد بن فهد الودعان
إنَّ هذا الموضوع لَهو من أعظم الموضوعات قدْرًا وأشرفِها شأنًا، والاعتِناء به اعتناءٌ ببابٍ عظيم من أبواب الديانة، وإنَّ ممَّا يبرز أهميَّته:
أولًا: العلم بالأسماء والصِّفات أشرف العلوم:
إنَّ من القواعِد المقرَّرةِ عند أهل العلمِ أنَّ شرَف العلم بشرَف المعلوم، ولمَّا أنْ كان هذا العِلم متعلِّقًا بالله تعالى كان أعظَمَ العلوم وأجلَّها، ولذا جعَل ابنُ القيم علمَ الأسماء والصِّفات من أشرف علوم الخَلْق[1]، وكيف لا يكون كذلك وأعظَم العلم هو العلمُ بالله تعالى، وأعظمُ العلمِ به سبحانه العلمُ بأسمائه وصِفاتِه، بل إنَّ ذلك جِماع العلم، قال ابن القيم - بعد أن ذكَر نوعَي معرفة الله؛ ومنها المعرفة الخاصَّة الموجِبة للحياء من الله والأُنس به -: "وجِماعُ ذلك الفِقهُ في مَعاني أسمائه الحسنى وجلالِها وكمالِها، وتفرُّده بذلك وتعلُّقها بالخلق والأمْر"[2].
وقال ابن العربيِّ في فضْل العلم بالأسماء: "شرَف العلم بشَرَف المعلوم، والباري أشرَفُ المعلومات، فالعلمُ بأسمائه أشرَفُ العلوم"[3].
وقال العزُّ بن عبدالسلام: "فالتوسُّل إلى معرفة الله تعالى ومعرفةِ ذاتِه وصِفاتِه أفضَلُ من التوسُّل إلى مَعرفة أحكامِه"، وقال في أقسام الوسائل: "وسيلةٌ إلى ما هو مَقصودٌ في نفسه؛ كتعريف التوحيدِ وصِفات الإله؛ فإنَّ مَعرفة ذلك من أفضَل المقاصِدِ، والتوسُّل إليه من أفضَل الوسائل"[4]، وقال: "مَعرفة الله عزَّ وجَلَّ، ومعرفة أسمائه الحُسنى وصِفاته العلى، وهي أفضَل الأعمال شرَفًا وثمارًا وآثارًا"[5].
ثانيًا: العلم بالأسماء والصفات هو الطريق لمعرفة الله تعالى:
ذلك أنَّ الله تعالى لا تَراه في الدنيا العيونُ، ولا تُحيط به الأوهامُ والظُّنون، فكان باب الأسماء والصِّفات والتعبُّد لله بها هو الطَّريقَ الأمثل لمعرفَة الله تعالى، فهو حادي القلوبِ إلى علَّام الغيوب، وشاحِذُ الهِمَم في درْب السَّالكين إلى عِبادة ربِّ العالمين.
قال ابن القيم: "فالإيمان بالصِّفات ومَعرفتها وإثباتُ حقائقها وتعلُّق القلب بها وشهوده لها - هو مَبدأُ الطَّريق ووسَطُه وغايته، وهو رُوح السَّالكين، وحاديهم إلى الوصول، ومحرِّكُ عزماتهم إذا فَتروا، ومُثيرُ هِمَمهم إذا قصَّروا؛ فإنَّ سيْرَهم إنَّما هو على الشَّواهد، فمَن كان لا شاهِدَ له فلا سيْر له ولا طلَب ولا سلوك له، وأعظَمُ الشَّواهد صِفات مَحبوبهم ونَهاية مَطلوبهم؛ وذلك هو العَلَم الذي رُفِع لهم في السَّير فشمَّروا إليه"[6].
ثالثًا: العلم بالأسماء والصفات أصل الدين، وسِرُّ العبودية:
إنَّ علم الأسماء والصِّفات هو أصل الدِّين، وسرُّ العبوديَّة، قال ابن تيمية: "فإنَّ مَعرفة هذا أصْلُ الدِّين وأساسُ الهداية، وأفضَل ما اكتسبَته القلوبُ وحصَّلَته النُّفوس وأدركَتْه العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرَّسول وأفضَلُ خلْق الله بعد النبيِّين لم يُحكِموا هذا الباب اعتقادًا وقولًا"[7]، ويقول عن مَعرفة الله: "الذي مَعرفتُه غاية المعارِف وعبادتُه أشرَفُ المقاصِد، والوصول إليه غايةُ المطالِب، بل هذا خُلاصة الدَّعوة النبويَّة وزبدة الرِّسالة الإلهيَّة"[8]، ويقول ابن القيِّم: "اعلم أنَّ سرَّ العبودية وغايتها وحكمتَها إنَّما يطَّلع عليها من عرَفَ صِفات الربِّ عزَّ وجل ولم يعطِّلها، وعرف مَعنى الإلهيَّة وحقيقتها"[9]، وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن: "أجلُّ الفوائد وأشرَفها ما دلَّ عليه الكتاب العزيز؛ من مَعرفة الله بصِفات كمالِه ونُعوتِ جلاله، وآياتِه ومخلوقاته، ومعرفة ما يترتَّب على ذلك من عبادته وطاعتِه وتعظيمِ أمرِه ونهيه، وأدلَّةُ ذلك مبسوطةٌ في كِتاب الله، وأكثر النَّاس ضَلَّ عن هذين الأصلَين مع أنَّهما زبدَة الرِّسالة ومقصود النبوَّة ومَدارُ الأحكام عليهما"[10]، وقال السعدي بعد أن ذكَرَ أنواعَ التوحيد: "وهذه الأنواعُ هي رُوحُ الإيمان ورَوْحُه، وأصلُه وغايتُه، فكلَّما ازداد العبدُ معرفةً بأسماء الله وصِفاتِه ازداد إيمانُه وقوِيَ يقينُه، فيَنبغي للمؤمن أن يَبذل مقدورَه ومُستطاعه في مَعرفة الأسماء والصِّفات"[11].
ولا يَخفى أنَّ مرتبة الإحسان هي أعظَمُ مَراتب الدِّين، وهي على قسمين:
أولهما: الاستِحضار؛ وهو استِحضارُ مُشاهدة الله واطِّلاعِه عليه وقُرْبِه منه، وإحاطته بأمرِه، وهي مَرتبةُ الإخلاص؛ لأنَّ استحضارَه ذلك في عمَله يَمنعه من الالتفات إلى غير اللهِ وإرادته بالعمَل.
وثانيهما: المشاهدة؛ وهي أن يعمَل العبدُ على مُقتضى مُشاهدته لله تعالى بقلبه، فيَستنير قلبُه بالإيمان وتَنفذ البَصيرةُ في العرفان، حتى يصير الغيبُ كالعيان[12].
ومن عرَف اللهَ بأسمائه وصِفاته تحصَّلَت له مَرتبة الاستِحضار؛ فإن ترقَّى إلى المعرفة الحقِّ تحصَّلَت له مَرتبةُ المشاهدة؛ وهي المرتبة التي يوصَف الإنسانُ فيها بالتعبُّد المطلَقِ بجميع الأسماء والصِّفات.
قال ابن القيم: "مَشهد الإحسان: وهو مَشهد المراقَبَة؛ وهو أن يَعبد اللهَ كأنَّه يَراه، وهذا المشهد إنَّما يَنشأ من كَمال الإيمانِ بالله وأسمائه وصِفاتِه حتى كأنَّه يَرى اللهَ سبحانه فوق سَمواته مستويًا على عرشه، يتكلَّم بأمره ونهيِه، ويدبِّر أمرَ الخليقة، فيَنزِل الأمرُ من عنده ويَصعَدُ إليه، وتُعرَض أعمال العِباد وأرواحهم عند الموافاة عليه، فيَشهد ذلك كلَّه بقلبه، ويَشهد أسماءه وصفاتِه، ويَشهد قيومًا حيًّا، سميعًا بصيرًا، عزيزًا حكيمًا، آمِرًا ناهيًا، يحبُّ ويبغض، ويَرضى ويغضَب، ويفعل ما يَشاء، ويَحكم ما يُريدُ، وهو فوق عرْشِه، لا يَخفى عليه شيء من أعمال العِباد ولا أقوالِهم ولا بواطِنهم، بل يَعلم خائنةَ الأعيُن وما تُخفي الصُّدور، ومَشهدُ الإحسان أصْلُ أعمال القُلوب كلها؛ فإنَّه يوجِب الحياءَ والإجلالَ، والتعظيمَ والخشية، والمحبَّةَ والإنابة والتوكُّلَ، والخضوعَ لله سبحانه والذلَّ له، ويَقطع الوسواسَ وحديثَ النَّفْس، ويجمع القلبَ والهمَّ على الله، فحظُّ العبد من القرب من الله على قدْر حظِّه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصَّلاة حتى يكون بين صلاة الرَّجلين من الفضل كما بين السَّماء والأرض وقيامُهما وركوعُهما وسجودهما واحدٌ"[13].
رابعًا: العلم بالأسماء والصفات من توحيد المرسلين:
إنَّ العلم بالأسماء والصِّفات والتعبُّد لله بها من توحيد المرسَلين، قال السعدي في شرح توحيدهم: "يتعرَّفون معناها ويعقلونه بقلوبهم، ويتعبَّدون اللهَ تعالى بعِلمها واعتقادِها، ويَعملون بما يَقتضيه ذلك الوصف من الأحوال القلبيَّة والمعارف الربانيَّة؛ فأوصاف العظَمَة والكبرياء، والمجدِ والجلال تَملأ قلوبَهم هَيبةً لله وتَعظيمًا له وتَقديسًا، وأوصاف العزِّ والقدرة والجبَروت تَخضع لها القلوبُ وتذلُّ وتَنكسِر بين يدَي ربِّها، وأوصاف الرَّحمة والبرِّ، والجودِ والكرَم تَملأ القلوبَ رغبةً وطمعًا فيه وفي فضله وإحسانِه، وجودِه وامتِنانِه، وأوصافُ العلم والإحاطة توجِب للعبد مراقبَة ربِّه في جميع حرَكاته وسكناتِه، ومجموعُ الصِّفات المتنوعة الدالَّة على الجلال والجمالِ والإكرام تَملأ القلوبَ محبَّةً لله وشوقًا إليه، وتوجِب له التألُّهَ والتعبُّدَ والتقرُّبَ من العبد إلى ربِّه؛ بأقواله وأفعالِه، بظاهره وباطنِه، بقيامه بحقِّه وقيامه بحقوق خلقِه"[14].
خامسًا: العلم بالأسماء والصفات أصل العلوم:
إنَّ العلم بالأسماء والصِّفات أصلُ العلوم والمعارِف، وقد شرَح ذلك ابنُ القيم، حيث يقول: "إحصاءُ الأسماء الحسنى والعلمُ بها أصلٌ للعلم بكلِّ مَعلوم؛ فإنَّ المعلومات سواه إمَّا أن تكون خلْقًا له تَعالى أو أمْرًا؛ إمَّا علم بما كوَّنه أو علم بما شرَعَه، ومَصدَر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مُرتبطان بها ارتباطَ المقتضى بمقتضيه، فالأمرُ كلُّه ومصدره عن أسماء الله الحُسنى، وهذا كلُّه حسَن لا يَخرج عن مصالح العِباد"[15].
ويبيِّن ابنُ القيم أهميَّةَ مَعرفة الأسماء الحُسنى والصِّفات العليا في مَعرفة مَقاصِد الشَّرعِ الحكيم، فيقول: "ومَن كان له نَصيب من مَعرفة أسمائه الحسنى واستِقراء آثارها في الخلْق والأمرِ رأى الخلقَ والأمرَ منتظمَين بها أكمَلَ انتِظام، ورأى سريان آثارِها فيهما، وعلِمَ بحسب مَعرفته ما يَليق بكماله وجلالِه أن يَفعله وما لا يليق، فاستَدلَّ بأسمائه على ما يَفعله وما لا يفعله؛ فإنَّه لا يَفعل خلافَ موجِب حمْدِه وحكمتِه، وكذلك يَعلم ما يَليق به أن يَأمر به ويشرعه ممَّا لا يَليق به؛ فيعلم أنَّه لا يَأمر بخلاف موجِب حمْدِه وحكمته، فإذا رأى في بعض الأحكام جورًا وظلمًا، أو سفَهًا وعبثًا ومفسدةً، أو ما لا يوجِب حمدًا وثناءً - فلْيعلَم أنَّه ليس من أحكامه ولا دينِه، وأنَّه بريءٌ منه ورسولُه؛ فإنَّه إنما أمَرَ بالعدل لا بالظُّلم، وبالمصلَحة لا بالمفسدَة، وبالحكمة لا بالعبَث والسَّفَهِ"[16].
ويضرِب ابنُ القيم مثالًا يبيِّن أثَرَ مَعرفة الأسماء والصِّفات في مَعرفة مَقاصد الشَّارع، وأنَّ لذلك أثرًا عظيمًا في باب الفِقه والحُكمِ على المسائل من مَنظورٍ شرعيٍّ؛ ففي مسألة بطلان التحليل والحيَل الربويَّة يقول: "يَستحيل على الحكيم أن يحرِّم الشَّيءَ ويتوعَّد على فِعله بأعظَم أنواع العقوبات ثمَّ يبيح التوصُّلَ إليه بنفسه بأنواع التحيُّلات، فأين ذلك الوَعْد الشَّديد وجواز التوصُّل إليه بالطَّريق البعيد؟ إذ ليست حكمةُ الرَّبِّ تعالى وكمال علمِه وأسمائه وصفاته تُنتقض بإحالَة ذلك وامتناعِه عليه؛ فهذا استدلالٌ بالفِقه الأكبر في الأسماء والصِّفات على الفِقه العملي في باب الأمر والنَّهي"[17].
سادسًا: العلم بالأسماء والصِّفات طريق الكَمَلَة:
إنَّ العلم بالأسماء والصِّفات والتعبُّد لله بها طَريقُ الكمَلَةِ من العباد، ولذا كان ذلك طَريق الأنبياء وهم أكمَلُ الخلق وأعلمُهم بالله، ثمَّ على نهْجهم سار الصدِّيقون والسَّابقون، وخَطا العارفون المحبُّون.
قال ابن القيم: "وهذه طَريقة الكُمَّلِ من السَّائرين إلى الله، وهي طريقةٌ مشتقَّة من قلب القرآن، قال الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، والدُّعاءُ بها يَتناول دعاءَ المسألة ودعاءَ الثَّناء ودعاء التعبُّد، وهو سبحانه يَدعو عبادَه إلى أن يَعرفوه بأسمائه وصِفاته، ويُثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظِّهم من عبوديَّتها"[18]، وقال: "أمَّا الخواصُّ فعمدة إيمانهم محبَّةٌ تَنشأ من معرفة الكَمال، ومُطالعة الأسماء والصِّفات"[19]، وقال: "باب الأسماء والصِّفات الذي إنَّما يَدخل منه إليه خواصُّ عِباده وأوليائه، وهو باب المحبِّين حقًّا الذي لا يَدخل منه غيرُهم ولا يَشبع من معرفته أحدٌ منهم؛ بل كلَّما بدا له منه علمٌ ازداد شوقًا ومحبَّة وظمأً"[20].
وإذا علِم العبد الصَّادِق ذلك تعلَّق قلبُه بهذا الباب العظيم الذي يوصِلُه إلى باب المحبَّة، ويَفتح له من العلوم والمعارِف أمورًا لا تَخطر على باله، ولتكن أنت وفَّقك الله ممَّن سلَك هذا الباب؛ فقَدْ واللهِ قَلَّ مَن سلَكه واستفتَحه، قال ابن القيم - بعد أن ذَكَر مشهدَي الحِكمة والأسماء والصِّفات -: "وهذان المشهدان يَطرحان العبدَ على باب المحبَّة ويَفتحان له من المعارف والعلوم أمورًا لا يُعبَّر عنها، وهذا بابٌ عَظيم من أبواب المعرفة قَلَّ مَن استفتَحَه من النَّاس"[21].
وقال: "أمَّا من جِهَة العلمِ والمعرفة فأنْ تكون بَصيرتُه منفتِحة في معرفة الأسماء والصِّفاتِ والأفعال، له شُهودٌ خاصٌّ فيها مطابِق لِما جاء به الرَّسول لا مخالف له، فإنَّ بحسب مخالفتِه له في ذلك يقَع الانحِراف، ويكون ذلك قائمًا بأحكام العبوديَّة الخاصَّة التي تَقتضيها كلُّ صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياسِ الذين هم خلاصة العالَم، والسَّالكون على هذا الدَّرب أفراد من العالَم، طريق سهْل قريبٌ موصِل، طريق آمِنٌ أكثرُ السَّالكين في غفلةٍ عنه، ولكن يَستدعي رسوخًا في العلم ومعرفةً تامَّة به، وإقدامًا على ردِّ الباطل المخالف له ولو قاله مَن قاله"[22].
سابعًا: العلم بالأسماء والصفات طريق السعادة:
إنَّ العلم بالأسماء والصِّفات والتعبُّدَ لله بها قطْبُ السَّعادة، ورَحى الفَلاح والنَّجاح، فمَن رام السَّعادة وابتغاها فليأخُذ نفسَه بأسماء الله وصِفاته، فبها والله الأُنس كلُّه والأمْنُ كله، وما راحة القلب وسعادته إلَّا بها، ولم لا وهي تتعلَّق بمَن طبُّ القلوب بيديه، وسعادتها بالوصول إليه وكمال انصباب القلب إليه.
ولذا أشار الحبيبُ صلى الله عليه وسلم إلى الاعتِناء بها حين قال: ((إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، مائة إلَّا واحدًا، مَن أحصاها دخل الجنَّةَ))[23]، وأعلى منازل الإحصاء التعبُّدُ، ولذا قال ابنُ القيم عن إحصائها: "وهذا هو قطْبُ السَّعادة ومَدار النَّجاح والفلاح"[24]، وقال: "مَن تعلَّق بصفة من صِفاته أخذَته بيده حتى تُدخِله عليه، ومَن سار إليه بأسمائه الحسنى وصَل إليه، ومَن أحبَّه أحبَّ أسماءه وصفاته، وكانت آثَر شيء لديه، حياةُ القلوب في معرفته ومحبَّته، وكمالُ الجوارح في التقرُّب إليه بطاعته والقيامِ بخدمته، والألسِنة بذِكره والثَّناء عليه بأوصاف مِدْحَتِه"[25].
وقال: "فالسَّير إلى الله من طريق الأسماء والصِّفات شأنُه عجَب وفتحه عجَب، صاحِبُه قد سيقَت له السَّعادة وهو مستلقٍ على فراشه غير تعِبٍ ولا مَكدود، ولا مشتَّت عن وطنه، ولا مشرَّد عن سكنه"[26].
ثامنًا: العلم بالأسماء والصفات طريق محبة الله:
إنَّ العلم بالأسماء والصِّفات والتعبُّد لله بها طريق محبَّة الله للعبد، وهي عنوان السَّعادةِ وطريق النَّجاة والفوز بالرضوان، قال ابن تيمية: "وثبت في الصَّحيح أنه بشَّر الذي كان يقرؤها ويقول: إنِّي لَأحبُّها لأنَّها صِفة الرحمن - بأنَّ الله يحبُّه[27]، فبيَّن أنَّ الله يحب مَن يحب ذِكر صِفاته سبحانه وتعالى، وهذا بابٌ واسع"[28].
وإنما كان الفضل له لمحبَّته لسورة الإخلاص التي هي وصْف الرَّحمن ونسبه سبحانه وتعالى، وقد جاء أنَّ المشركين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربَّك، فنزلَت هذه السورة مبيِّنة لصِفة الرَّحمن[29]، فمَن أحبَّ هذه السورة إنَّما أحبَّها لما فيها من صِفات الكمال والجَلال لله تعالى، ومَن أحبَّ هذه الصِّفات فقد أحبَّ مَن اتَّصَف بها سبحانه، فمحبَّةُ الصِّفات موصِلةٌ إلى محبَّة الله تعالى.
قال العزُّ بن عبدالسلام: "أحَبُّ عِباد الله تعالى إليه وأكرَمُهم عليه العارفون بما يستحقُّه مولاهم مِن أوصاف الجلال ونعوت الكمال...، فهم في رياض معرفَتِه حاضرون، وإلى كَمال صِفاته ناظرون، إنْ نظروا إلى جلاله هابوه وفنوا، وإن نظروا إلى جماله أحبُّوه وصبروا، وإن نَظروا إلى شدَّة نقمته خافوه وأذعنوا، وإن نظروا إلى سعَةِ رحمته رجوه وأنابوا إليه..."[30].
تاسعًا: العلم بالأسماء والصفات أعظم روافد الإيمان:
إنَّ معرفة الأسماء والصِّفات أعظم روافِد الإيمان، وأجَلُّ الموصلات لحلاوته، ولذا كان مَن تحقَّق بمعانيها ووعاها بقلبه ووجدانه - فإنه يجِد لها من التأثيرات المختلفة على قلبه ما يهذِّب روحَه ويَسمو بنفسه حتى يَصير كأنَّه في رياضٍ مِن الجنَّة"[31]، ولذا قال صلى الله عليه وسلم - فيما يُوجِد حلاوةَ الإيمان - ((أنْ يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سِواهما))[32].
قال السعدي مبينًا روافد الإيمان: "منها - بل أعظمها - معرِفةُ أسماء الله الحُسنى الواردة في الكتاب والسنَّةِ، والحرص على فهم معانيها، والتعبُّد لله بها، ثمَّ ذكَر حديث: ((إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا))، ثمَّ قال: "الجنَّة لا يدخلها إلا المؤمنون، فعُلِم أنَّ ذلك أعظم ينبوع ومادَّة لحصول الإيمان وقوَّته وثباته، ومعرفةُ الأسماء هي أصل الإيمان، والإيمان يرجِع إليها"[33].
والتعرُّف على الله بالأسماء والصِّفات من أعظم السُّبل الموصِلة للأنس بالله والمحبَّةِ له والتعظيم لشأنه جلَّ وعلا، وهل ذلك إلَّا العبودية الحق التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: "مَن أراد السعادةَ الأبديَّة فليلزم عتبةَ العبودية"[34].
ومَن تفكَّر في أسماء الله وصِفاته وجَد في نفسه مِن عظمة الله ومحبَّته ما يوضح له بيقينٍ معنى العبودية؛ بل يكون حينئذ ذلك الوصف هو أحسَنَ الأوصاف إليه وأقرَبَها إلى نفسه، ألا ترى أنَّ الله نادى خليلَه صلى الله عليه وسلم بذلك الوصف فقال: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1]، فوصفه بذلك الوصف في مقام التشريف والتكريم وبيان القرب؟ وهذا الوصف هو الذي اختاره صلَّى الله عليه وسلم حينما خُيِّر بين أن يكون ملِكًا رسولًا أو عبدًا نبيًّا[35]، وإذا وصَل العبدُ لذلك حقَّ له الفرح: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
وإذا تأمَّل الموفَّق ذلك فإنَّه لا ينثني أن يكون هذا العِلم أكبرَ مقاصده وأعظَم مطالبه، بل يجعله غايته ومقصده، وسلوَتَه وأُنسَه، وإلَّا فقد جعل لنفسه من الحرمان نصيبًا وافرًا.
مَن يحتاج إلى معرفة التعبد بالأسماء والصفات؟
إنَّ ما سبق بيانه يبيِّن لك أنَّ كل أحَدٍ بحاجة إلى العلم بالأسماء والصِّفات:
• فالعالِمُ بحاجةٍ إليه؛ ليهذِّب نفسَه، ويزكو بروحه، وليسترشِدَ به على الأحكام الشرعيَّة والمقاصد الربانيَّة.
• وطالب العلم بحاجة إليه؛ ليهذِّب أخلاقَه، ويربِّي نفسه على نهج العباد العارفين.
• والعامِّي بحاجة إليه؛ ليوقِن بخالقه، وليعرف حكمتَه في الشَّرع والكون.
[1] انظر: "مدارج السالكين" (2 / 420).
[2] الفوائد (209).
[3] أحكام القرآن (2 / 804).
[4] قواعد الأحكام (1 / 104، 105).
[5] شجرة المعارف والأحوال (12)، وانظر: منه (16).
[6] "مدارج السالكين" (3 / 366).
[7] الحموية (196).
[8] الحموية (199).
[9] "مدارج السالكين" (1 / 110).
[10] مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1 / 420).
[11] التوضيح والبيان (108)، وانظر: القول السديد في مقاصد التوحيد (41).
[12] انظر: جامع العلوم والحكم (44).
[13] رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (38، 39)، وانظر: مختصر الفوائد في أحكام المقاصد (111، 112).
[14] الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين (221).
[15] "بدائع الفوائد" (1 / 163)، وانظر: "مدارج السالكين" (1 / 449).
[16] "طريق الهجرتين" (227، 228).
[17] التبيان (145، 146).
[18] "مدارج السالكين" (1 / 452).
[19] "طريق الهجرتين" (527).
[20] "طريق الهجرتين" (520).
[21] انظر: "مفتاح دار السعادة" (1 / 286).
[22] "طريق الهجرتين" (362، 363).
[23] رواه البخاري (7392)، ومسلم (2677).
[24] "بدائع الفوائد" (1 / 164).
[25] "عدة الصابرين" (286).
[26] "طريق الهجرتين" (363).
[27] رواه البخاري (7375)، ومسلم (813): كان يَقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، فلمَّا رجعوا ذَكروا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((سلوه لأيِّ شيء يصنَع ذلك؟))، فسألوه، فقال: لأنَّها صِفة الرَّحمن وأنا أحبُّ أن أقرأ بها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أخبروه أنَّ الله يحبُّه)).
[28] درء تعارض العقل والنَّقل (5 / 312).
[29] انظر: جامع الترمذي (3364، 3365)، فتح الباري (8 / 739)، تفسير القرآن العظيم (4 / 604).
[30] شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال (10).
[31] انظر: "شرح النونية"؛ لهراس (2 / 64).
[32] رواه البخاري (16)، ومسلم (43).
[33] التوضيح والبيان (107).
[34] نقله عنه ابن القيم في "مدارج السالكين" (1 / 464).
[35] رواه أحمد (2 / 231)، وقد صححه محقِّقو المسنَد في الطبعة المحقَّقة بإشراف شعيب الأرنؤوط (7160).