زواج التحليل
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
قوله: (وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها، أو نواه بلا شرطٍ بطل النكاح)[1].
قال في "المقنع": "فإن نوى ذلك من غير شرطٍ لم يصح أيضاً في ظاهر المذهب[2]، وقيل[3]: يُكره ويصح"[4].
قال في "الحاشية": "قوله: فإن نوى ذلك... إلى آخره، وهذا ظاهر قول الصحابة؛ لما روى نافع عن ابن عمر: أن رُجلاً قال له: امرأة تزوجتها أُحِلّها لزوجها، لم يأمرني، ولم يعلم؟ قال: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، قال: وإن كنا نعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً[5].
وقال: لا يزالا زانيين، وإن مكثا عشرين سنة إذا علم أنه يريد أن يحلها[6].
وهذا قول عثمان بن عفان، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وبكر المزني، والليث، والثوري، ومالك[7]، وإسحاق"[8].
وقال في "الإفصاح": "واختلفوا في الرجل يتزوج المرأة على أن يُحلها لزوج كان قبله فيشترط ويقول: إذا أحللتُكِ للأول فلا نكاح بيننا، أو يقول: فإذا وطئتكِ فأنت طالق:
فقال أبو حنيفة[9]: يصح النكاح دون الشرط، وهل يثبت الحل للأول بعد الإصابة من الزوج الثاني؟ عنه روايتان [10]: إحداهما: لا تحل له، والثانية: تحل.
وقال مالك[11]: متى وقع الطلاق الثلاث فلا تحل للأول ما لم يتزوج بها غيره نكاحاً صحيحاً، نكاح رغبةٍ به الاستباحة دون التحليل ويدخل بها، ويطؤها وطئاً حلالاً، لا في حالة حيض، ولا إحرام فإن شرط التحليل، أو نواه من غير شرطٍ فسد العقد، ولا تحلل للثاني.
وقال الشافعي[12]: إن قال إذا أَحللتُكِ للأول فلا نكاح بيننا، لم يصح النكاح، فإذا قال: فإذا وطئتك فأنت طالق، فعلى قولين:
أحدهما: يصح النكاح، قاله في عامة كتبه، وهو قول أبي حنيفة[13].
والآخر: لا يصح، قاله في القديم، فعلى هذا القول الذي يقول بصحة النكاح: فإنه إذا أصابها تحل للأول قولاً واحداً، وعلى القول الذي يقول فيه بفساد النكاح فهل إذا أصابها تحل للأول؟ فيه قولان[14]:
أحدهما: يحصل به الحل للزوج الأول، وهو القديم.
والثاني: لا يحصل بذلك الإحلال.
وقال أحمد[15]: لا يصح ذلك على الإطلاق.
واختلفوا فيما إذا تزوج امرأة ولم يشترط ذلك، إلا أنه كان في عزمه: فقال أبو حنيفة[16] والشافعي[17]: يصح النكاح، إلا أن الشافعي يكرهه. وقال مالك[18] وأحمد[19] - في إحدى الروايتين -: لا يصح، وفي الرواية الأخرى عنه[20]: يصح"[21].
وقال ابن رشد: "وأما نكاح المحلل - أعني: الذي يقصد بنكاحه تحليل المطلقة ثلاثاً - فإن مالكاً[22] قال: هو نكاح مفسوخ.
وقال أبو حنيفة[23] والشافعي[24]: هو نكاح صحيح.
وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله المُحَلِّل)[25]، فمن فهم من اللعن التأثيم فقط قال: النكاح الصحيح، ومن فهم من التأثيم فساد العقد تشبيهاً بالنهي الذي يدل على فساد المنهي عنه قال: النكاح فاسد"[26].
قال في "الاختيارات": "ولا يصح نكاح المحلل، ونية ذلك كشرطه، وأما نية الاستمتاع: وهو أن يتزوجها ومن نيته أن يطلقها في وقتٍ أو عند سفره فلم يذكرها القاضي في "المجرد"، ولا "الجامع"، ولا ذكرها أبو الخاطب، وذكرها أبو محمد المقدسي، وقال: النكاح صحيح لا بأس به في قول عامة العلماء إلا الأوزاعي.
قال أبو العباس: ولم أرَ أحداً من أصحابنا ذكر أنه لا بأس به تصريحاً إلا أبا محمد، وأما القاضي في "التعليق" فسوى بين نيته على طلاقها في وقت بعينه وبين التحليل، وكذلك الجد، وأصحاب الخلاف.
وإذا ادَّعى الزوج الثاني: أنه نوى التحليل، أو الاستمتاع فينبغي ألّا يُقبل منه في بطلان نكاح المرأة إلا أن تصدقه، أو تقوم بينة إقرار على التواطؤ قبل العقد، ولا ينبغي أن يُقبل على الزوج الأول فتحل له في الظاهر بهذا النكاح، إلا أن يصدق على إفساده، فأما إن كان الزوج الثاني ممن يُعرف بالتحليل فينبغي أن يكون ذلك، كتقدم اشتراطه إلا أن يُصرح له قبل العقد بأنه نكاح رغبة، وأما الزوج الأول: فإن غلب على ظنه صدق الزوج الثاني حرمت عليه فيما بينه وبين الله تعالى، ولو تقدم شرط عُرفي أو لفظي بنكاح التحليل، وادعى أنه قصد إلى نكاح الرغبة، قُبل في حق المرأة إن صححنا هذا العقد، وإلا فلا، وإن ادَّعَاه بعد المفارقة ففيه نظر، وينبغي ألّا يُقبل قوله؛ لأن الظاهر خلافه، ولو صَدَّقت الزوجة أن النكاح الثاني كان فاسداً فلا تحل للأول لاعترافها بالتحريم عليه"[27].
وقال البخاري: "(بابُ إذا طَلَّقَها ثلاثاً، ثم تزوجت بعد العِدَّة زوجاً غيره فلم يَمَسَّهَا).
وذكر حديث عائشة رضي الله عنها: أن رفاعة القرظي تزوج امرأةً ثم طلقها، فتزوجت آخر، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثلُ هُدْبَةٍ، فقال: (لا، حتى تذوقي عُسَيْلَتَهُ، ويذوق عُسَيْلَتَكِ)[28]" .
قال الحافظ: "قوله: (باب إذا طَلَّقها ثلاثاً ثم تزوجت بعد العِدَّة زوجاً غيره فلم يَمَسَّهَا)، أي: هل تحل للأول إن طلَّقَها الثاني بغير مَسِيس؟... إلى أن قال: واستدل به على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللاً ارتجاع الزوج الأول للمرأة إلا أن كان حال وطئه مُنْتَشِراً، فلو كان ذكره أَشَل، أو كان هو عِنِّيناً، أو طفلاً لم يكف على أصح قولي العلماء، وهو الأصح عند الشافعية أيضاً[29].
وقال جمهور العلماء: ذوق العُسَيْلَة: كناية عن المجامعة، وهو: تغييب خَشَفَة الرجلِ في فرج المرأة[30].
وزاد الحسن البصري: حصول الإنزال، وهذا الشرط انفرد به عن الجماعة، قاله ابن المنذر وآخرون.
وقال ابن بطَّال[31]: شذَّ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: يكفي من ذلك: ما يُوجب الحدَّ ويحصن الشخص، ويوجب كمال الصَّداق، ويفسد الحج والصوم...
إلى أن قال: واستدل به على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني، لكن شرط المالكية ونُقِلَ عن عثمان وزيد بن ثابت: ألّا يكون في ذلك مُخادعة من الزوج الثاني، ولا إرادة تحليلها للأول[32]، وقال الأكثر[33]: إن شرط ذلك في العقد فسد، وإلا فلا.
واتفقوا على أنه إذا في نكاحٍ فاسدٍ لم يُحَلِّل[34]، وشذَّ الحكم فقال: يكفي، وأن من تزوج أمةً ثم بَتَّ طلاقها ثم مَلَكَها لم يحل له أن يطأها حتى تتزوج غيره.
وقال ابن عباس وبعض أصحابه والحسن البصري: تحل له بملك اليمين.
واختلفوا فيما إذا وطئها حائضاً، أو بعد أن طهرت قبل أن تطهر، أو أحدهما صائم أو مُحرم"[35].
[1] الروض المربع ص389.
[2] شرح منتهى الإرادات 5/ 185، وكشاف القناع 11/ 370 - 371.
[3] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 20/ 407.
[4] المقنع 3/ 47 - 48.
[5] أخرجه الحاكم 2/ 199، والطبراني في الأوسط 7/ 136 - 137 6242، والبيهقي 7/ 208.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
قال الألباني في الإرواء 6/ 311: وهو كما قالا.
[6] أخرجه عبد الرزاق 6/ 266 10778.
[7] الشرح الصغير 1/ 403، وحاشية الدسوقي 2/ 258.
[8] حاشية المقنع 3/ 47، وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 20/ 408.
[9] فتح القدير 3/ 177، وحاشية ابن عابدين 3/ 435.
[10] فتح القدير 3/ 177 - 178، وحاشية ابن عابدين 3/ 435.
[11] الشرح الصغير 1/ 403، وحاشية الدسوقي 2/ 258.
[12] تحفة المحتاج 7/ 312، ونهاية المحتاج 6/ 282.
[13] فتح القدير 3/ 177، وحاشية ابن عابدين 3/ 435.
[14] المهذب 2/ 134.
[15] شرح منتهى الإرادات 5/ 185، وكشاف القناع 11/ 370 - 371.
[16] فتح القدير 3/ 177، وحاشية ابن عابدين 3/ 435.
[17] تحفة المحتاج 7/ 312، ونهاية المحتاج 6/ 282.
[18] الشرح الصغير 1/ 403، وحاشية الدسوقي 2/ 258.
[19] شرح منتهى الإرادات 5/ 185، وكشاف القناع 11/ 370 - 371.
[20] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 20/ 407.
[21] الإفصاح 3/ 175 - 178.
[22] الشرح الصغير 1/ 403، وحاشية الدسوقي 2/ 258.
[23] فتح القدير 3/ 177، وحاشية ابن عابدين 3/ 436.
[24] تحفة المحتاج 7/ 312، ونهاية المحتاج 6/ 282.
[25] أخرجه الترمذي 1120، والنسائي 6/ 460، وأحمد 1/ 448، والبيهقي 7/ 208، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 170 1530: صحَّحه ابنُ القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري.
وقال الألباني في الإرواء 6/ 308: وهو كما قالا.
[26] بداية المجتهد 2/ 55.
[27] الاختيارات الفقهية ص220.
[28] البخاري 5317.
[29] تحفة المحتاج 7/ 311 - 312، ونهاية المحتاج 6/ 281.
[30] فتح القدير 3/ 176، وحاشية ابن عابدين 3/ 434. والشرح الصغير 1/ 403، وحاشية الدسوقي 2/ 257. وتحفة المحتاج 7/ 311، ونهاية المحتاج 6/ 280 - 281. وشرح منتهى الإرادات 5/ 515 - 516، وكشاف القناع 12/ 426 - 427.
[31] شرح صحيح البخاري 7/ 479.
[32] الشرح الصغير 1/ 403، وحاشية الدسوقي 2/ 258.
[33] فتح القدير 3/ 177، وحاشية ابن عابدين 3/ 435. وتحفة المحتاج 7/ 312، ونهاية المحتاج 6/ 282. وشرح منتهى الإرادات 5/ 185، وكشاف القناع 11/ 370 - 371.
[34] فتح القدير 3/ 174، وحاشية ابن عابدين 3/ 434. و الشرح الصغير 1/ 403، وحاشية الدسوقي 2/ 258. وتحفة المحتاج 7/ 311، ونهاية المحتاج 6/ 281. وشرح منتهى الإرادات 5/ 516، وكشاف القناع 12/ 428.
[35] فتح الباري 9/ 464 - 468.