نحن والمزاح
عبد الملك القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن الإنسان مدني بطبعه، ومع اتساع المدن، وكثرة الفراغ لدى بعض الناس، وانتشار أماكن التجمعات العامة كالمنتزهات والاستراحات، وكثرة الرحلات البرية، والاتصالات الهاتفية، واللقاءات المدرسية، والتجمعات الشبابية؛ توسع كثير من الناس في المزاح مع بعضهم البعض دون ضابط لهذا الأمر الذي قد يؤدي إلى المهالك، ويورث العداوة والبغضاء.
والمراد بالمزاح: الملاطفة والمؤانسة، وتطييب الخواطر، وإدخال السرور، وقد كان هذا من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ذلك البخاري في باب الانبساط إلى الناس مستدلاً بحديث: ((يا أبا عمير ما فعل النغير))، وكذلك ما رواه أبو داود عن أنس أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله احملني!! فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((إنا حاملوك على ولد الناقة))، قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وهل تلد الإبل إلا النوق)).
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((يا ذا الأذنين)) يمازحه [رواه الترمذي].
ولا شك أن التبسط لطرد السأم والملل، وتطيب المجالس بالمزاح الخفيف؛ فيه خير كثير قال ابن تيمية - رحمه الله -: "فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة"، وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح من المروءة، وحسن الصحبة، ولا شك أن لذلك ضوابط منها:
1- ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين: فإن ذلك من نواقض الإسلام قال - تعالى -: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)[التوبة:65-66]، قال ابن تيمية - رحمه الله -: "الاستهزاء بالله، وآياته، ورسوله كفر، يكفر به صاحبه بعد إيمانه".
وكذلك الاستهزاء ببعض السنن، ومما انتشر كالاستهزاء باللحية، أو الحجاب، أو بتقصير الثوب، أو غيرها.
قال فضيلة الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - في المجموع الثمين (1/63): "فجانب الربوبية والرسالة، والوحي والدين؛ جانب محترم لا يجوز لأحد أن يبعث فيه لا باستهزاء، ولا بإضحاك، ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر، لأنه يدل على استهانته بالله - عز وجل -، ورسله، وكتبه، وشرعه، وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله - عز وجل - مما صنع، لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله، ويستغفر ويصلح عمله، ويجعل في قلبه خشية الله - عز وجل - وتعظيمه، وخوفه، ومحبته، والله ولي التوفيق".
2- ألا يكون المزاح إلا صدقاً: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له))[رواه أبو داود]، وقال محذراً من هذا المسلك الخطير الذي اعتاده بعض المهرجين: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا))[رواه أحمد].
3- عدم الترويع: خاصة ممن لديهم نشاط وقوة، أو بأيديهم سلاح أو قطعة حديد، أو يستغلون الظلام وضعف بعض الناس ليكون ذلك مدعاة إلى الترويع والتخويف، عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً))[رواه أبو داود].
4- الاستهزاء والغمز واللمز: الناس مراتب في مداركهم، وعقولهم، وتتفاوت شخصياتهم، وبعض ضعاف النفوس - أهل الاستهزاء، والغمز، واللمز - قد يجدون شخصاً يكون لهم سلماً للإضحاك والتندر - والعياذ بالله -، وقد نهى الله - عز وجل - عن ذلك فقال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)[الحجرات:11] قال ابن كثير في تفسيره: "المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويعد من صفات المنافقين".
والبعض يستهزئ بالخلقة، أو بالمشية، أو المركب، ويخشى على المستهزئ أن يجازيه الله - عز وجل - بسبب استهزائه قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تظهر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك))[رواه الترمذي].
وحذر من السخرية والإيذاء لأن ذلك طريق العداوة والبغضاء فقال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات -، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه))[رواه مسلم].
5- أن لا يكون المزاح كثيراً: فإن البعض يغلب عليهم هذا الأمر ويصبح ديدناً لهم، وهذا عكس الجد الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاح فسحة ورخصة لاستمرار الجد والنشاط، والترويح عن النفس قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: "اتقوا المزاح، فإنه حمقة تورث الضغينة".
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط، ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك، وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله - تعالى -، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله".
6- معرفة مقدار الناس: فإن البعض يمزح مع الكل بدون اعتبار، فللعالم حق، وللكبير تقديره، وللشيخ توقيره، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابل فلا يمازح السفيه، ولا الأحمق، ولا من لا يعرف، وفي هذا الموضوع قال عمر بن عبد العزيز: "اتقو المزاح، فإنه يذهب المروءة"، وقال سعد بن أبي وقاص: "اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء".
7- أن لا يكون المزاح إلا بمقدار الملح للطعام: قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب))[صحيح الجامع:7312]، وقال عمر بن الخطاب -: "من كثر ضحكه قلَّت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به".
فإياك إياك المـزاح فإنه يجرىء عليك الطفل والدنس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهاءه ويورثه من بعد عزته ذلا
8- ألا يكون فيه غيبة: وهذا مرض خبيث، ويزين لدى البعض إنه يحكى ويقال بطريقة المزاح، وإلا فهو داخل في حديث النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((ذكرك أخاك بما يكره))[رواه مسلم].
9- اختيار الأوقات المناسبة للمزاح: كأن تكون في رحلة برية، أو في حفل سمر، أو عند ملاقاة صديق؛ تتبسط معه بنكتة لطيفة، أو طرفة عجيبة، أو مزحة خفيفة؛ لتدخل المودة على قلبه والسرور على نفسه، أو عندما تتأزم المشاكل الأسرية، ويغضب أحد الزوجين، فإن الممازحة الخفيفة تزيل الوحشة، وتعيد المياه إلى مجاريها.
أيها المسلم: قال رجل لسفيان بن عيينة - رحمه الله -: المزاح هجنة - أي مستنكر -؟ فأجابه قائلاً: "بل هو سنة، لكن لمن يحسنه، ويضعه في مواضعه".
والأمة اليوم وإن كانت بحاجة إلى زيادة المحبة بين أفرادها، وطرد السأم من حياتها، إلا أنها أغرقت في جانب الترويح، والضحك، والمزاح؛ فأصبح ديدنها وشغل مجالسها وسمرها، فتضيع الأوقات، وتفنى الأعمار، وتمتلئ الصحف بالهزل واللعب.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً)) قال في فتح الباري: "المراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع، والموت، وفي القبر، ويوم القيامة".
وعلى المسلم والمسلمة أن ينزع إلى اختيار الرفقة الصالحة الجادة في حياتها ممن يعينون على قطع ساعات الدنيا، والسير فيها إلى الله - عز وجل - بجد وثبات، ممن يتأسون بالأخيار والصالحين قال بلال بن سعد - رحمه الله -: "أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهباناً".