التعامل السطحي مع قضايا معقدة (الاختلاط أنموذجًا)
نبيل بن عبد المجيد النشمي
ستظلُّ أزَماتنا الفكرية متتابِعة حتى يقضي الله أمرًا، أو يُحْدِث فرجًا لنخرج منها؛ وذلك لأننا ما زلنا ندور حول أنفسنا، ونكرِّر أخطاء التفكير المتَّبعة، رغم التوسُّع الثقافي والتطوُّر المؤسَّسي والانتشار التعليميَّ؛ وذلك ببساطة لأننا لم نَقُم بتطوير أدوات التفكير لدينا، ولم نستفد من سيل المعلومات المتاحة والأبحاث الصادرة.
نقف مع القضية -أيَّة قضية- بنظرة مستعجلة أو أحادية أو فردية أو بعيدة أو سوداوية، أو نقف -وهي الطامة- بمواقف وأحكام مسبقة وتصوُّرات تخمينية على أنها الحقيقة.
تظهر السطحية في تفكيرنا عندما نناقش مظاهر المشكلة ونترك الأسباب، وعندما نركِّز على الفروع ونهمل الأصول، وعندما نغرق في الجزئيات ونغفل أو نتغافل عن الكليات، وتزداد السطحية فينا عندما نفرِّق بين المتماثلَين ونجمع بين النقيضَين.
الاختلاط مثلاً قضية كَثُر في الفترة الماضية الحديث عنها، واللغط حولها، وظهرت أقوال وكتابات تستغرب -في بعضها- عن كيفية تفكير أصحابها!
وبدايةً: لا بُدَّ أن نقرَّ بأنها قضية مهمة تستحق الوقوف عندها والكتابة حولها، وتوضيح التعامل الصحيح معها، فهي ليست مجرد فتوى اجتهادية أو رأي شخصي أو وجهة نظر خاصة، إنها قضية تؤثر على مجتمع، بل على أجيال قائمة وأجيال قادمة، ونتائجها ستشمل أكثر من مجال من مجالات الحياة وعلى كل شرائح المجتمع.
فمع العلم بأن من كليات ديننا الحفاظ على الأعراض وحمايتها مما يعرِّضها للخدش، فإننا نتجاهل -أو بالأحرى نجهل- أن الاختلاط جزئية تُعارِض هذه الكلية وتقضي عليها.
ومع أن من أصولنا وقواعدنا أن الأمور بمقاصدها، إلا أننا نتعمَّد عدم الحديث عن ذلك عند تناول هذه القضية، وكم يؤلم أن تجد مَن يُناقِش مظاهر مشكلة الانحراف وضعف التديُّن، ويترك أسبابها، والتي على رأسها الاختلاط بين الجنسين! فصلٌ غير مبرَّر بين المشكلة وأسبابها.
والتعامل مع قضية الاختلاط بين الجنسيين على أنها اجتهاد فقهي، وأنها مسألة فقهية بحتة، بغضِّ النظر عن آثارها ونتائجها، وبدون اعتبار لما حصل بسببها في مجتمعات أقدمتْ على فعلها، يصعب عليَّ أن أقول: إن هذا دليل على أحد أمرين أحلاهما مرٌّ: قلة فقه، أو قلة دين، وأتمنى من كل قلبي أن يكون الأول.
ولا تدري من أين تأتي إلى عقل مَن يريد أن يفصل بين الاختلاط وبين محاولات التغريب التي تستهدف المجتمعات المحافظة، إلا أن نقول محسِنين الظنَّ: هذا دليل على سطحية التفكير وقلة الفهم، وإلا فالأمر لا يحتاج إلى كثير جهد حتى يعرف المرء العلاقةَ بين التغريب والاختلاط، وهل يبحث الليبراليون عن مدخل إلى تغريب المجتمعات أوسع لهم وأسرع نتائج إلا من مداخل المرأة وما حولها، فالاختلاط حلقة في سلسلة تغريبية جهنَّمية إن لم يكن هو أهم ما في السلسلة؛ لأنه مفتاح لانتصارات تغريبية عديدة، نسأل الله الحافظ أن يحفظ مجتمعات المسلمين من الفساد والمفسدين.
ومما يدلُّك على مشكلة السطحية في تناول قضية الاختلاط:
أن تسمع أو تقرأ لِمَن يقول: إن لفظ (الاختلاط) دخيل على الفقه الإسلامي، وتجد مَن يُلزِمك بحجة يحسبها الفرقان، فيقول: ما الفرق بين الاختلاط والابتعاث؟ وما دام أنكم رضيتم بالابتعاث فمثله الاختلاط؟
قد يقول البعض: إن مثل هذه المقولات لا تستحقُّ الردَّ، وقد يكون لديه بعض الحق في ذلك، لكن المصيبة عندما تأتي هذه المقولات ممَّن يُنْسَب إلى الفتوى، ويُنْقَل حديثه إلى الملأ باسم العلم والدين، وربما الحق الذي لا مرية فيه، وعندما تُنْشَر في المواقع والمنتديات والصحف والمجلات تبلغ الآفاق.
ولو سلَّمنا بأن الاختلاط لفظ جديد على الفقه، وعلى المجتمع الإسلامي، وهو ليس كذلك طبعًا؛ لكن تنزُّلاً لو سلَّمنا، فالعبرة ليست بجديد اللفظ ولا بقديمه، ولا بحروفه وتركيبه؛ إنما العبرة بمعناه ومدلولاته، وهي التي تُبْنَى عليها الأحكام.
كذلك فإن اللفظ الجديد يُحْتَاط له أكثر من القديم، وخاصة في هذا الزمان، وأمتنا في وضعية من التبعية والانبهار بحال الآخر تجعل الحرص على تحرِّي الدقَّة في استعمال الألفاظ الجديدة أشدَّ وأكثر؛ حتى لا نُدخِل في الدين ما ليس منه، ولا نقبل كلَّ ما هبَّ ودبَّ.
وكون اللفظ جديدًا على المجتمعات والفقه الإسلامي يجعلنا أكثر رفضًا له؛ لأنه إن أُطْلِق على الاختلاط المعاصِر، فالاختلاط في عصرنا حالُه لا تخفى على أحد، وجرائمه وآثاره لا ينكرها ذو لُبٍّ وصاحب غَيْرة.
وأما مَن قاس الاختلاط على الابتعاث، وألزم مَن رضي بالثاني الرضا بالأول، فلولا أنها نُشِرت في منتدى لما كانت تستحقُّ النقاش؛ إذ القياس فاسد أصلاً، وما بُنِي على فاسد فهو فاسد، وإلا فلا تحتاج إلى ذكاء غير عادي مسألة التفريق بين الاختلاط والابتعاث؛ فالفروق واضحة وكثيرة؛ ومنها مثلاً: الابتعاث محصور مكانًا وزمانًا وأشخاصًا، كذلك المبتعَث وإن عاش في بيئة مختلطة فترة معينة، فهو على يقين من عودته إلى بيئة محافظة، وأن هذه مرحلة لحاجة تنتهي بنهاية تحصيلها.
ثم إن المبتعَث لو عاد يصبح فردًا في منطقته، ولن يشكِّل ظاهرة؛ لأن المبتعَثين غالبًا من مناطق مختلفة، وقبل ذلك مَن قال: إن الابتعاث مقبول جملة وتفصيلاً، فقد حذَّر العلماء من مخاطر الابتعاث، ووضعوا له شروطًا وضوابط، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى-.
والحق أن قضية الاختلاط وما يتعلَّق بها تستحقُّ أن تنال اهتمامًا واسعًا، سواء على مستوى فقهي أو فكري أو سياسي، فهي ليست مجرد اجتماع الجنسين لطلب العلم المجرد، أو للقيام بأعمال مشتركة، أو للحاجة إلى التنقُّل في مواصلات عامة ونحوها؛ بل هي تعبِّر عن هوية مجتمع وعلاقته بدينه، وحرصه على المحافظة على قِيَمِه ومبادئه، كما أنها عنوان لأمة غير أمَّتنا، والوقوع في الاختلاط بدايةُ انحراف في مزالق جاهلية خطيرة، وذَوَبان شخصية المجتمع المسلم، والعودة إلى الوراء، إلى جاهلية حُرِّرنا منها قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا.
الاختلاط قضية كبيرة من حيث ضررُها وانتشارها وآثارها المدمِّرة، وكذلك ارتباطها بمنظومةٍ تستهدف الإسلام فكرًا وسلوكًا، وتناوُلها بهذه السهولة يمهِّد الطريق أمام الأعداء، ويوفِّر عليهم الجهود، ويعينهم على تحقيق أهدافهم، وسواء قصَدنا بتساهُلنا ذلك أو لم نقصد، فهم مترصِّدو الفُرَص.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يجمع كلمتنا، وألا يجعل مصيبتنا في ديننا.