التربية في الوسط المدرسي
حنافي جواد
"هنالك مؤسسات تربوية نجحت في العملية التربوية، أشتاقُ لرؤيتها، وهناك مؤسسات لم تنجَح في المهمة، وما أكثرَها! وفاقد الشيء لا يُعطيه".
قصة المُخطِّطين:
ولقد ركَّز المخطِّطون والمبرمجون في المجال المدرسي على المناهج والأساليب والأدوات والبيداغوجيات، فحمَّلوا الإدارةَ التربوية والأساتذةَ مسؤوليةَ ما حدَث ويحدُث، وتناسَوْا - عن جهل أو تجاهلٍ - الواقعَ الأُسَري للطفل؛ حيث لا تؤهِّل جلُّ الأُسر أطفالَها ليكونوا تلامذةً؛ مِن سوء التربية التي تلقَّوْها أو يتلقونها في محيطهم الأُسري والاجتماعي والعالمي بصُور مباشرةٍ، وغيْر مباشرة.
وهنالك فرق بين "التربية" و"العفوية" في المجال التربوي؛ فالمربي الحقيقي يُربِّي مِن خلال مبادئَ ومنطلقاتٍ، أما المربي العفوي، فيُربِّي من خلال السجية والفِطرة، وأغلب الذين يُربون اليوم إنما يربون بطرق عشوائية، وصلاحُ المجتمعِ من صلاحِ تعليمهِ وتربيته، وفسادُهُ من فسادِهِما.
وغنيُّ عن البيان أن العملية التربوية ليست مَحصورةً في المدرسةِ، بل تتجاوزها، وما أكثر المدارس في أيامِنَا هذه، وأغلبُها غير خاضع لرقابةٍ محصِّنة مانعة!
وإذا لم يكن تمَّ انسجام بين المدارس المختلفة الرسمية وغيرِ الرَّسميةِ، فلتنتظر التِّيهَ والتَّشَرْذُم والتشتت، وهذا هو الواقع، ولا ننسَ اكتساح المثيرات في زمن الصورة والشبكات؛ إذ أصبح معه الحديث عن الهوية والامتياز شبه مُستحيل.
وجدير بالذكر أن كل المِهَن تتطلَّب ترخيصًا وشهادة؛ لإثبات الكفاءة والصلاحية، إلاَّ تكوين الأسرة، فإنه لا يتطلَّب شهادة ولا تكوينًا، كن مَن شِئتَ، وكوِّن أسرة أو أسرتَين، فالباب مفتوح على مِصراعَيه للصالح والطالح، ومِن النتائج المترتِّبة على هذا الوضع المأساوي: تفسُّخ الأُسَر، وانهيار المنظومة القِيَميَّة.
"محاولة" التمييز بين التعليمي والتربوي:
يجب - أولاً - التمييز بين التربية والتعليم، قبل الخوض في الموضوع باعتباره جزءًا لا يتجزَّأ مِن إصلاح المدرسة.
وننسى في أغلب الأحيان أن بينهما فرقًا، والذي يُنسينا الفرقَ هو ذلك التداخُلُ بينهما؛ أي: التداخل بين الحقل التربوي والحقل التعليميِّ، وأما المتداوَل على الألسنة، فهو قولهم: "العمليَّة التعليمية التعلُّمية"، مع تجاهل للأبعاد التربوية.
مقاربة المفهومين:
1- التربية: تعليم الطفل الحياة، باعتبارها جانبًا قيَميًّا أخلاقيًّا مِن داخل المنهاج ومن خارجه، ويمارس التربيةَ أستاذ الرياضيات وعلوم الحياة والأرض والتربية الإسلامية، كما يمكن تمرير القيم من خلال المناهج.
2- التعليم: تعليم الطفل المبادئَ والأسُس والأصول كما هي مقرَّرة في المناهج والبرامج.
• وقد نربِّي عن طريق التعليم.
• وقد نعلِّم عن طريق التربية.
• والتربية تداريب عمَلية، وليست تقديمًا لمعلومات ومُعطيات جاهِزة.
• والبيت هو المدرسة التربوية الأولى، والغالب فيه التربية، والغالبُ في المدرسة التعليم.
• والتربية تتطلب مربيًا؛ لأنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه.
وهل الأستاذ في مكان القدوة بالنسبة لمتعلِّم اليوم - أقول: اليوم؟
دعوني أكن معكم صريحًا - كعادتي دائمًا - إن الأستاذ ليس قدوة، وهو في محل القدوة؛ لأنه محروم من القيام بهذه المهمة النبيلة؛ لأسباب ذاتية وموضوعية، منها:
• الحملات الإعلامية الحريصة على تشويه صورة رجل التربية والتعليم، وتعميم الحالات الشاذة؛ لأن المقاربات السياسية لم تفكِّر في إحاطة المربِّي بالعناية اللازمة؛ لتعدد قنوات التأثير وصناعة الرأي، فالمدرِّس منافَس بقُدوات متعدِّدة؛ رياضيين، و...، و...
• اختلاف توجهات الآباء، وغياب رؤية واضحة عن النموذج القيمي الذي نريد، فقد يكون ما يريده الأستاذ ويراه تربويًّا شاذًّا في نظر الآباء؛ لتشتُّت الرؤى.
• جدارُ المدرسة قصير يتهجَّم عليها كل الناس، ونقول بالدارجة المغربية: "الحيط القصير يَحتقرونها ويحتقرون العاملين بها"، وقد يَعتبرونها - في لا وعيهم - قطاعًا غير مُنتج.
• وعلى العموم فإن الصرح القيمي والأخلاقي التربوي في تهاوٍ يومًا بعد يوم، سواء في المجال المدرسي أو في غيره؛ لهذا فإن المؤسَّسات التربوية - ومنها المدرسة - في خطر حقيقي.
يكاد يُجمع الناس أن المدرسة لم تعد تربِّي، بل تتربَّى؛ أقصد أن (التلميذ/ المتعلم) فرَض - فرضًا - على المدرسة نمطًا معيَّنًا من التربية، واستطاع أن يَخرق "القوانين الداخلية" للمؤسَّسات التربوية، و"كاد" الأساتذة والإداريون يَندمجون مع تلك المُخالَفات ويألفونها، وكأنها حالات عادية، ويكفيك أن تَزور مؤسَّسة تعليمة لتَكتشِف ما نقول.
ولا نَنفي أن هنالك بعض الأساتذة والإداريِّين ما زالوا مُرابطين في الثغر يُدافعون عن الأخلاق والقيم والقوانين الداخلية في المؤسسات التربوية، يدافعون مع انعدام الوسائل وأدوات الدعم والمساندة، ولكن الغالبية انهزمت أمام السيل العرم مِن العادات والسلوكيات الشاذة، التي غزت المدارسَ والمؤسسات التربوية، ولا نستثني منها الجامعية، وهذا مشكل عويص.
لماذا وقع ذلك؟
• قصور القوانين الداخلية التعليمية - التربوية.
• نقص في الأطُر التربوية القادرة على تتبُّع جحافل المتعلِّمين خرِّيجي "مدرسة النجاح".
• غياب وسائل "الردع التربوي" في المؤسسات؛ "فالتلميذ دائمًا على حق"؛ لأنه أدرك أنه محور العملية التعليمية التعليمية - التربوية.
• إسناد مناصب الحراسة العامة والإدارة التربوية لـ"صنف من الناس" يَنطبِق عليهم قول التونسي: "هرمنا"، فرُّوا من الأقسام؛ للبحث عن قسط من الراحة، ونُكنُّ لهم احترامًا جمًّا؛ فليس الذنب ذنبَهم.
• انشقاق صفوف رجال التعليم، وتدهوُرُ العلاقات بينهم، وتبادُل الاتهامات بين الإدارة التربوية والأساتذة، وأصبح كل واحد يقول في قرارة نفسه: "أنا والطوفان مِن بعدي".
شبه إجماع:
يكادُ يُجمع اليوم المربُّون - في ظل استفحال ظواهر الشغب، وتردي الوضعية التربوية في المؤسسات التربوية، وضعف أو انعدام الحماية - على مسألة، وهي:
أن الذكيَّ - من الإداريين والأساتذة - هو الذي يَخرج بأقل الخسائر، ولا يتورَّط في حقل مليء بالألغام، وأضعف حلقة فيه هو المربي - إداريًّا كان أو مدرِّسًا - لأن المنظومة الحقوقية أوهمت الناسَ أنها تَعتني بالمتعلِّم، و"قهَرت المربي"، نعم قهرتْه، وغدا مِن الضروري والمنطقي أن يتكيَّف "المربي" مع هذه الوضعية؛ لأنه أولاً وأخيرًا خاسر لمعرَكة هامشية.
مِن أسباب ظاهرة الشَّغَب في المدارس:
ضعْف سلطة المؤسسات التربوية، وغِياب وسائل الردْع - الحكيمة - المناسِبة، وهذا هو السبب الرئيس، ثم التربية الأُسرية، ووسائل الإعلام المروِّجة للعنف والصراع.
ما هي المؤسَّسات التي تساهم في تربية الأجيال؟
• مؤسَّسة الأسرة، ولقد استقالت "أغلب" الأسَر للأسف.
• الإعلام، وهو المسيطر على الساحة، ويَمتاز بالتنوُّع وصعوبة التحكُّم في خرائطه.
• الشركات المنتجة للِّباس والماركات العالميَّة.
• جمعيات المجتمع المدني.
• المؤسَّسات المدرسيَّة والجامعية.
طبيعة انتقال الأثر في المجال التربوي:
تنتقل التربية عن طريق:
• المحاكاة والتقليد.
• التَّكرار.
• التعلم بالنظير والقدوة.
• التشرب اللاإرادي.
ضعف المدرسة: والمدرسة ضعيفة أمام جحافل المثيرات - المهيِّجات - المغريات، لا سيما وهي ما زالت تَعتمِد طرائق بدائية في النقل التربوي:
• مع قوة وحداثة وسائل الإعلام والاتصال.
• والشارع كالسيل الجارف العملاق قويٌّ بما فيه الكفاية ليحول الجبال عن مواضعها.
• وكذلك الشركات العملاقة وسياساتها الإشهارية الخطيرة، المبنية على خلفيات علوم متقدِّمة.
• أما الوسائل التي تعتمدها المدارس "الحديثة"، فالسبورة والطباشير و"حنجرة المدرس"، ولسان حاله ينطق بالحقيقة، وليُقَس ما لم يُقَل.
والنتيجة الحتمية - كما سبقت لذلك الإشارة -:
اختراق الشارع للمدرسة.
وهيئة المتعلمين وهندامهم يُنبئانِك بما لن تُنبئك به الكتب والمذكرات والتقارير، تخبرك أن الاختراق قد تطور بشكل يَستعصي فيه الرجوع.
إن كثرة الحالات واستفحال الوضع، جعل الإدارة التربوية والمربين عاجزين أو مشلولي الحركة أمام جحافل "الظواهر البشرية"، زدْ على ذلك أزمة الاكتظاظ الناجمة عن سياسات النجاح بالنسب.
أما مراكز الاستماع والنوادي التربوية، فحديث ذو شجون.
أما مراكز الاستماع وخلايا الإنصات والنوادي التربوية، فتأثيرات محدودة أو شبه منعدمة؛ لأسباب:
• المكلَّفون بتلك الأنشطة "متطوعون"، ولا نَستهين بالعمل التطوعي؛ فهو مُهمٌّ أيَّ أهمية.
• النوادي التربوية في الأغلب الأعم شكلية، القصدُ منها ملء التقارير ورفعها للجهات الرسمية.
• غياب وسائل العمل وأدوات المتابَعة.
• غياب الإطار المتخصِّص في معالَجة الحالات.
خلايا الإنصات نموذجًا:
المتعلمُ الفلاني يُعاني مِن وضعية اقتصادية متردية.
توتُّر أسَري ونزاعات عائلية.
الأسرة تسكن في غرفة واحدة مُكتراة، وهي في نزاع مع مالك المحل.
• الذي يُنصت لهذه "الظواهر" - أقصد المتطوع - مدرس مادة الإنجليزية مثلاً، ليس مُحلِّلاً نفسيًّا.
• والذي ينصت له لا يمتلك الحلول، يكتفي بالقول: اصبر واحتسب.
• والذي ينصت يعاني من... ومن... وهو في حاجة لمَن يُنصت له لإصلاح القطاع.
• ثم لغيابٍ شبه تام لعناصر التنسيق بين الخلية وجهات أخرى تتوافر لديها الوسائل لإصلاح ما يمكن إصلاحه.
ما هو الحل؟
الحل هو إسناد منصب "التأطير التربوي" إلى إطار متخصِّص لربط المسؤولية بالمحاسَبة؛ بحيث يكلَّف بمهامَّ محدَّدةٍ وأهداف مضبوطة، ويكون منسِّقًا مع مجالات وَجِهات أخرى.
وتوفير الأطر الكافية المؤهلة والمسؤولة كفيلٌ بالإصلاح، أما الإصلاح الترقيعي فلا يُصلِح، وإنما يُدمِّر، وإذا قمنا بعملية حسابية صغيرة سنَستنتِج أنَّ ما صُرف في الترقيع يفوق بكثير المبالِغَ التي يمكن رصدُها للإصلاح الفعال.
ملاحظة:
• ولا تَخفى أهمية التأطير التربوي والتنشيط - في إطار أنشطة مندمجة أو موازية - لنقل الأثَر التربوي.
• كما لا تخفى أهمية خلايا الإنصات والاستماع في المؤسَّسات التربوية، شريطة توفير الوسائل ومقاربة الموضوع من كل جوانبه وتداخلاته.
نماذج حيَّة ناطقة:
إن الحافلات - في بعض المدن - ترفض الوقوف في محطات معيَّنة؛ لأنَّ السائقَ يرفضُ حمل المتعلمين المشاكسين والمشاغبين؛ إذ يرفضون أداء التذاكر، وسيتسبَّبون في الفوضى داخل الحافلة.
ويذكِّرني ذلك بـ"أيام زمان"؛ إذ قديمًا كان للمحفظة التي يَحملها المتعلم شرف تُضفيه على الشخص الذي يَحملها، فيحترم طالب العلم ويتعاون معه؛ لأنه حامل المشعل، أما اليوم، فهو مصدر فوضى وشغب.
أما حقيبة المتعلم اليوم، فلا يَحمل فيها كتبًا ولا كراسات، فتِّشها تجدْ بها دفترًا مُهترئًا، أو كتابًا ممزَّقًا، وأشياء أخرى.
أما الأستاذ "جعفر"، فحدَّثني يومًا أنه كان يمتطي حافلة، فإذا بشخص قويِّ البِنيَة يرغي ويزبد، يسب ويشتم، وهو في حالة يُرثى لها؛ بحيث ينبعث من وجهه الإجرام، وفجأة رأى أستاذه - جعفر - فهروَل إليه وقال له: لم أعمل بنصائحك أستاذي؛ فأصابني الآن ما أصابني، وبمجرَّد نزول هذا "الشخص" سمع الأستاذ جعفر ركاب الحافلات يرددون بالدارجة المغربية: "يحسن عوان المعلمين والأساتذة"؛ أي: إن المعلمين والأساتذة يعانون ويتحملون أعباء ويتعاملون مع ظواهر خطيرة، ولكنه سرعان ما يتناسى الآباء والأولياء هذا الوضع، فيحملون الأساتذة مسؤولية فشل المنظومة التربوية، وهم من ذلك براء.
الحاجة لمصفاة تربوية:
إذا كانت "المصفاة التربوية" الأسرية معطَّلة، فينبغي تقوية المصفاة "المدرسية"؛ لتكون فعالة قادِرة على منْع التأثيرات السلبية المنتشرة في الفضاء القريب من المؤسَّسة أو فيروسات الشارع.
المتعلمون ضحايا لـ:
• غياب فلسفة تربوية رصينة ومُندمِجة.
• قلة الوسائل وضعف التغطية التربوية.
• الاكتظاظ وآفاته.
• خطط النجاح بالنِّسَب.
• وضعية اقتصادية مُترديَة، لا تضمن تكافؤ الفرص.
• آباء غير مؤهَّلين للتربية.
• إعلام لا يَستهدفهم إلا باعتبارهم مُستهلِكين.
• ظاهرة العولمة وعدم تحصُّنهم بالمناعة الكافية.