الإسلام والعلم
نورالدين قوطيط
إحدى أكبر الإشكاليات التي هزَّت العقل الغربي منذ أن مزَّقَ عنه حُجب أساطير الكنيسة، هي: إشكالية علاقة الدين بالعلم.
وما مِن شكٍّ في أنَّ الأمر يرجع إلى حقيقة جوهرية، ألا وهي: التحريفات والأوهام التي تراكمَت وتسلَّلت عبر التاريخ إلى نصوص الكتاب المقدَّس لدى النصارى، وهذا ما تسبَّب في وجود تناقُضات حادة بين مُعطيات الكتاب المقدَّس العِلمية، ومعطيات البحث العلمي القائم على التجرِبة وغيرها من أساليب المنهج العلمي.
ولقد حرَص بعض المنتسبين إلى الإسلام أن يَستوردوا هذا الصراع بين "الدين" و"العلم" إلى داخل منظومة التفكير عند المسلم المعاصر، مع تعمُّد إهمالهم التنبيه على اختلاف مفهوم الدين ومنظومتِه في "النصرانيَّة" و"الإسلام"!
من أجل ذلك؛ سنضع في هذه المقالة المختصرة قاعدةً كلية يَسترشد بها المسلم المعاصر لفهم طبيعة علاقة الإسلام بالعلم، وتلك هي:
"كل حقيقة علمية ثابتة، إن لم يكن في القرآن ما يُؤيِّدها، فيستحيل أن يوجد فيه ما يعارضها"، وسند هذه القاعدة هو:
"القرآن كلام الله تعالى، وهو حقٌّ مُطلَق، والكون بما فيه خَلْقُ الله تعالى، وهو حقٌّ مُطلَق؛ لذلك يستحيل أن يتعارَضَ كلام الله وخَلْق الله".
وأدلَّة هذا التأصيل هي:
♦ [كلام الله حق مطلق]: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
♦ [الكون بما فيه حق مُطلَق]: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ [الإسراء: 44].
♦ [استحالة التعارض بينهما]: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [الأنعام: 73].
فإذا توهَّمتَ تعارضًا بين قول القرآن وقول العلم، فاعلم أن سبب ذلك يرجع إلى أحد أمرين:
♦ إما أن فهمك للحقيقة القرآنية خطأ.
♦ وإما أن ما تقول عنه حقيقة علمية خطأٌ.
إذًا خذ مني قاعدةً عامةً: "العلم الصحيح لا يعارض الوحي الصريح".
ولهذا؛ فالذين يقولون: "كل حقيقة علمية موجودة في القرآن" واهمون غالون، والذين يقولون: "القرآن يتعارَض مع العلم" ضالون جاهلون!
على أن أصل هذه الحقيقة هو:
"القرآن الكريم لم يَنزل ليكون كتاب فيزياء أو طب أو جغرافيا أو غيرها مِن المجالات العلمية، بل نزَل ليكون منهج حياة جميلة وسامية ومقدسة".
وهنا، فالقرآن الكريم حين يتحدث عن بعض حقائق الكون، فإنما يفعل ذلك في سياق حديثه عن مهمة الإنسان الأصلية؛ مهمة العبودية: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ومفهوم العبودية مفهوم شامل ومُتكامل؛ أي: رسم معالم منهج الحياة الصحيحة في معناها ومساراتها وعلاقاتها وأهدافها.
وبالتالي، فالقرآن الكريم وهو يَلفت النظر إلى بعض حقائق العلم الكوني، فهو يفعل ذلك لكي يُحقِّق مجموعة أهداف، نُلخِّصها في حقيقتين كُبريَينِ:
1- بيان عظمة الخالق تبارك شأنه في بناء الكون:
♦ ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14].
♦ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3].
2- توسيع مدارك العقل والوجدان الإنساني:
♦ ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20].
♦ ﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 11].
هذه المعطيات الواضحة حول لفت القرآن الكريم النظر إلى بعض حقائق الكون - بمختلف مظاهره - تعني بالضرورة الحقيقة التالية:
"القرآن لم ينزل ليُعلم الناس الحقيقة الكونية؛ إذ التعليم نشاط يرتبط بمقدار بذل الإنسان جهدَه في سبيله؛ وإنما تحدث عنها ليُريها لنا ويلفت نظرنا إليها".
ولهذا قال الحق تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53] ، فالإراءة الإلهية لنا لبعض حقائق الكون تعني ثلاث حقائق:
♦ الأولى: الطلب منا أن نبحث في أسرار ملكوت السموات والأرض، كما ورد في آيات أخرى كثيرة تدعونا للنظر في عجائب السماء والأرض؛ إذ إن هذا البحث الدؤوب سيُساعدنا على الترقي المُتواصل في معرفة عظمة الخالق.
♦ الثانية: أن العلم تراكمي، وأن الإنسان - مسلمًا أو كافرًا - بقدر ما يَبذل من الجهد في سبيل كشف أسرار الكون، بقدر ما يفتح الله تعالى له من الأبواب والآفاق؛ أي: بقَدر ما يُريه من دلائل العظمة الإلهية في الخلق والإبداع.
♦ الثالثة: أنَّ تكشُّف الكون عن بعض أسراره وطبيعة بنيته الفيزيائية العجيبة، خاضعٌ لإرادة الله تعالى المطلقة، فمهما أبدع الإنسان في وسائل البحث والكشف، فلن يصل سوى لما يريد الله تعالى له معرفته والاطِّلاع عليه.
إذا فهمنا هذه الإشارات الثلاث التي تضمنتها هذه الآية المباركة، سنفهم مدى ارتباطها بآية أخرى، وتلك هي قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، وهو تقرير جاء في سياق الحديث عن آيات الكون.
نخلص من هذا البيان إلى القول بأن المسلم الرباني يَشتغل بالعلم الكوني في إطار المُنطَلَقات التالية:
♦ الاستجابة لأمر الله تعالى له بالبحث المُتواصِل في آيات الكون والحياة والإنسان، ومن هنا فإن هذا السعي يكتسب سمة التعبد للخالق جلَّ مجدُه.
♦ الكون مسخَّر للإنسان؛ ولذا فهو يتضمن القابلية لأن يتعرف الإنسان على كثير من أسراره وطبيعته الفيزيائية.
♦ كل ما يمكن للإنسان اكتشافه عن أسرار الكون والحياة مرتبط بمدى ما يبذل من جهد في سبيل ذلك، كما أنه مرتبط بإرادة الخالق وحده.
♦ الغاية التي ينشدها المسلم من البحث العلمي ليست لغزو الفضاء أو لإنشاء الفردوس الأرضي، بل للترقِّي في مدارج معرفة الله تعالى، واستثمار تلك المكتشفات لتيسير المهمة التي خُلق لأجلها.
ولقد فهم المسلمون الأوائل هذه الحقيقة القرآنية الكبيرة، فانطَلَقوا في البحث العلمي واكتشاف أسرار الكون، حسب الإمكانيات المتاحة لهم في عصرهم، حتى كان عنصر "التجربة" أعظم إضافة قدَّمها المسلمون للمنهج العلمي، وعليه سيَبني الغربي انطلاقته الحضارية.