من دعائم الإيجابيات والتجدد في حياة الإنسان: تنمية الشخصية
عبدالمجيد قناوي
إن كلمة "قرأ" عندما يسمعها "أي إنسان" أو يقولها، يخطر بباله أنه وقع بين يديه كتاب أو رسالة، فينظر فيها ويفهم المقصود منها.
فقرأ رسالة: معناه: تتبع كلماتها نظرًا بحاسة البصر، ثم نطق بها أو لا.
وسمع الصوت: معناه: أدركه بحاسة الأذن.
فمن حيث الظاهر وفيسيولوجيًّا، فالعُضوانِ مختلفان في الشكل؛ فالعين لا تشبه الأذن، حتى في الدور الوظيفي فالعين نميز بها الألوان والأشكال والمسافات، والأذن نميز بها الأصوات، ولكنهما حاسَّتان ومَنْفذان يتشابهان في الإدراك الحسي والفهم، وبالتالي فمن حيث معاني الألفاظ والكلمات، لا يوجد فرق بين القراءة والفهم، والسماع والوعي.
كان الفيلسوف "إرنست رينان"[1] بعد أن يلقي دروسه يقول لسامعيه:
"مهما اعتقدتم في أنفسكم المقدرة والنبوغ وسَعة الاطلاع، فإنكم ستظلون دائمًا في حاجة إلى الاستزادة من المعارف، ولن يكون لكم ذلك إلا بواسطة المطالعة؛ فاقرؤوا ما استطعتم من مؤلفات الأقدَمين والمعاصرين".
والإنسان وليد طبعه الماضي؛ فللوراثة أثرها فيه وهو جنين، وللتربية المنزلية أثرها فيه وهو طفل، وللبيئة والمحيط طابعهما الخاص عليه وهو شاب، والأصحاب الذين يعقد معهم أواصر الصداقة - وكذلك هناك أثر الكتب التي يطالعها، والمحاضرات والملتقيات واللقاءات والدروس والمجالسات والمحادثات التي يحضرها ويستمع لها - كل هذه العوامل وغيرها تتعاون على تشكيل الإنسان وتكوينه وصبِّه في قالب معين، وما من إنسان يستطيع تجاهل كل ذلك وأثره في تكوين شخصيته.
وكثرة الاطلاع وقراءة ما صنعته لنا العقول الجبارة مِن آراء عظيمة في الكتب التي ألفوها - تجعَل الإنسان على صلة متينة ودائمة مع هذه العقول الكبيرة.
يقول صمويل سمايلز[2]: "إن العظماء والنبلاء لم يموتوا... إنهم محنطون في كتبهم، ولكن أرواحهم تسير خارجها، والكتاب صوت حي، وعقل لا يزال المرءُ يستمع إليه".
ومطالعة كتاب قيِّم وإيجاد صلة بينك وبينه معناها: أنك تقابِل مؤلِّفَه عن طريق وكيله.
لقد كان أرنولد بنيت[3]، وهو كاتبٌ كبير، لا يذهب إلى مكان إلا وكتاب "التأملات" لماركوس أوريليوس [4] في جيبه.
والكتب القيِّمة لا حصر لها، ومن شأنها جميعًا أن تَزيد من خصب العقل، وتضخم شخصية الإنسان، وبعض الخالدين من الكتَّاب المتصفين بالعلم والمعرفة - سواء كانوا مفكرين أو فلاسفة أو شعراءَ أو باحثين متخصصين في علمٍ من العلوم - أعطَوْا للعالم أحسنَ ما عندهم.
وكلما طالع الإنسان كتابًا من هذا النوع، نما إلهامُه، واتسع أفقُ أهدافه، وازداد ارتفاعُ آماله.
• إن الكتب مصدرُ إلهام، لا حدَّ لكرمِها وعطائها.
ولقد دلت الأبحاث النفسية الحديثة على أنه:
"لا يتوقع النفع الكبير من وراء الوعظ والإرشاد المجرد مِن ذكر الأمثال، الذي يقتصر على تبيان القواعد، إن لها أثرها بالتأكيد، ولكنه أثرٌ ضئيل وضعيف في تكوين شخصية الإنسان".
كما أظهرَتْ هذه الأبحاث أيضًا: أن هناك عدوى تنتقل من تاريخ الشخصيات النبلاء منهم والشرفاء، كما تنتقل جراثيم الأمراض من إنسان إلى إنسان، فاعتبرها العلماء "قاعدة أولى" يجب على المرء القيام بها، وهي أن يبحثَ لنفسه عن الشخصية أو الشخصيات العظيمة التي تلائمه، وأن يبذل جهده ليكون بينها وبينه "صلة وثيقة".
والآن أخي الكريم، أختي الكريمة، أيها الإنسان الحي المسلم، لنطالع معًا كتاب الله "القرآن":
بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15].
هذا الكتابُ نجده في كل مكان، في كل منزل، ومكتب، وسيارة، حتى البعض من غير المسلمين يحافظون عليه ويحملونه، ولكن تطبيقه كلما مر الزمن يضعف، والمحافظة عليه تزداد، ولو كان تطبيقُه تطبيقًا سليمًا، لكان هذا الأمر طبيعيًّا، ولكن "الغفلة" عن تعاليمه "كسلوك في الحياة" لا تتمشى مع ازدياد الحفاظ عليه؛ نتيجة انهماك الناس في الماديات، والأمور الملموسة في حياتهم العصرية، التي تعددت فيها المشاغل، وتوزع الانتباه، فنشأ عن ذلك نزعات ذاتية، وتحجَّرت القلوب، وتعقَّدت النفوس؛ فصدِئَتِ الأرواح، وأصبحنا في دوامة تدور حولنا، وفي الحقيقة نحن من أدارها، وابتدعت عادات، ثم أقنعنا أنفسنا بها، والنتيجة هي: عبَدْنا العاداتِ، وتخلَّيْنا عن العبادات الصحيحة.
فالرجوع إلى كتاب الله "القرآن" وقراءتُه قراءةً متدبرة متأنية واعية، بفهم وإدراك لجُمَله فهمًا دقيقًا، وبذل كل ما في وسعنا واستطاعتنا لوعي معناها، وإدراك مقاصدها ومغازيها؛ لأن القرآن "كتاب الله": قانون عام إلهي، ونظام حكم سماوي للإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، في مختلف مراحله؛ ابتداءً من وجوده في الأرحام التي يتطور فيها، ثم وهو في حجر أمه وهي تحتضنه وترضعه، ثم وهو زوج وأب، وتاجر ومربٍّ، وجاهل ومثقف، وجندي وقائد، وسياسي ورئيس، وملِك وقاض، وإمام وعابد زاهد، إلى أن يوارى التراب.
فالقرآن مرجع أساسي، ينظم حياة الإنسان، فيه حاجاته ولوازمه الدينية الرُّوحية، المعنوية والفكرية، والدنيوية المادية والحضارية مهما كثرت، يهدف إلى تطور الروح والعقل والحس، وهذا ما يتصل بمناحي حياة الإنسان وشخصيته.
فهو كافل لكل احتياجات البشر في كل عصر.
والعقل البشري مهما ارتقى واكتمل فلا يمكنه أن يخرج عن حدود الأحكام التي اشتمل عليها هذا الكتاب (القرآن)، وأن اتباعه في كل زمان والعمل به في كل مكان لهو "السعادة والنجاح، والفوز والإيجابية، والتجدد في حياة كل إنسان"، ومخالفته تؤدي إلى الذِّلَّة والمسكنة، والفساد والتعفن، والانحلال والتفكك والانهيار، والضعف والكآبة والخسران.
ومَن أتى به؟
هو خاتم الأنبياء والمرسلين "محمد" صلى عليه الله وسلم، وإلى الناس جميعًا.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [الزمر: 41]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28].
والكتب القيِّمة التي ألفها الإنسان: مِن شأنها أن تَزيد خصب العقل، وتضخم شخصيته؛ فالقرآن يصقل العقل، ويُهذِّب النفس بقدرة الخالق؛ لأنه "وحي".
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4].
و﴿ نُورٌ ﴾ [المائدة: 15].
﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22].
﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ﴾ [التغابن: 8].
هذا النور يشع في العقل، فيوقظ الضمير الغارق في أوهام الجهل وتصوراته، والمكبل بقيود الشهوات وأغلالها، ويحرِّر المشاعرَ والأحاسيس في نفس الإنسان، فيهتدي إلى مبادئ الأخلاق بعفوية وتلقائية، وتنتعش رُوحُه وتتلذذ، وتهدَأ نفسُه، ويصلح مزاجه، فيسترجع الجسم اتزانه (كالسيارة التي إذا أُحسِنت صيانة آلاتها، وضُبِط محركها، ففي قيادتها يتمتع سائقها وكلُّ مَن يركبها بالراحة)، وتطرد كل الهموم، فتفيض عيناه بالدموع بغزارة، كما تهب العاصفة الشديدة بريحها التي يصحبها عادة مطرٌ غزيرٌ (أو ثلج أو برد)، ثم يعقب العاصفةَ الهدوءُ والسكينة.
وهكذا تتحوَّل الأحاسيس والمشاعر من مخاوفَ إلى استقرار، ثم هدوء وسكينة، ثم اطمئنان وراحة بال، كنتيجة لانسجام الروح مع الجسد، فتتفاعل معهم النفس بأحاسيسَ منتظمة في تناغم، إنها "الراحةُ النفسية التي يأملها وينشدها كل إنسان".
* راجع مقالة: حاجة الإنسان إلى الدين (1) (الجزء الثاني) في شبكة الألوكة، على الرابط: http://www.alukah.net/sharia/0/100305/
فبالعلم نصل إلى الإيمان، وليس العكس؛ لأن العلم يخدم الإيمان، ويدعم أمر اليقين به؛ ذلك أن نور الله فعَل فَعلته؛ أذاب وأحرق كل الهموم (وما يبقى من المواد المحترقة بعد احتراقها سوى "الرماد" الذي تَذْروه الرياح، فيتطاير في الهواء)، وطرَدَ كل الوساوس، وكل الأفكار الميتة، مثلهم كمثل غاز الأعصاب السام، أو الغازات الخانقة، وهي تتلاشى وتندثر في الهواء.
(راجع المقالة: حاجة الإنسان إلى الدين (1)، الفقرة الرابعة من الجزء الأول في شبكة الألوكة على الرابط: http://www.alukah.net/sharia/0/100305 بدايةً من: فوجود "الله" من البدهيات التي يدركها الإنسان بفطرته... إلخ).
إن القرآنَ يُزوِّدُ سامعه بطاقة عجيبة، خاصة في أوقات الصلاة وحالات السكون، وبالأخص في الليل؛ فهو طاقة كامنة، بل "روحانية عالية"، إذا تفاعلت معه (أي القرآن) أصبح قدرة إلهية، وبطريقة طبيعية وفيزيائية يكتسبها الجسم فتتحول إلى طاقة دافعة تدفع الجسم ذاتيًّا، فيصبح قادرًا على أداء أشغاله بسبب حركته، كالطاقة التي تشع من الشمس؛ فالقرآن "وحيٌ" يشع في العقل، ويضفي عليه بروحانيته العالية جلالةً وقوة.
إذًا، إذا تفاعلنا مع "القرآن" فإنه يتحول في حياتنا إلى طاقة محركة دافعة منشطة.
والقرآن تلاوتُه عبادة، وقراءتُه في الصلاة فريضة، لا يُقرَأ أثناء الركوع ولا السجود، يسمح بقراءته في الوقوف (والإنسان قائم في الصلاة)، وقوف الإنسان، وهو منتصب بقامته في الصلاة كالجبل المنتصب انتصابًا ثابتًا، لا يتحرك، سبحان الله! كأنه يخضع إلى عملية إنزال طاقة سماوية للشحن والتجديد، وعلى مراحل متواصلة، مدة حياة الإنسان إلى يوم مماته.
ويتم هذا في:
أوقات الصلوات الخمس المفروضة، أساس ركيزة الدين، وما يُعبَد به الله سبحانه وتعالى.
وعليه، أنصح نفسي وكل إنسان مسلم حي ألا يقرأَ كتاب الله "القرآن" لمجرد البركة فقط، ولا على الأموات؛ فالله سبحانه وتعالى يقول وقوله الحق: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ [يس: 69، 70]، إنما قراءتُه بين التلاوة والتدبُّر والفهم، وعلينا أن نبذل كل ما في وسعنا لوعي معانيه ومحتوياته ومقاصده، وإن عسُرَ علينا نسأل أهل الذِّكر، ومعنى هذا:
• أن القراءةَ الصحيحة والعلم الصحيح ينمِّيان الشخصيةَ، ويهيئانِ الإنسان للإيمان، وبالإيمان يتعرف على خالقه، ويتقرب منه، ويبَرُّ أخاه الإنسان، فيصل إلى السعادة التي كان ينشُدُها ويرجوها.
• وما أجملَ أن نستمع إلى أقوال العلماء في هذا الموضوع!
يؤكد الدكتور/ محمد الهادي فاندويك[5]:
"أن أهم مقومات المسلم الصحيح الإيمان، وفهم القرآن، وعيش حياة إسلامية صحيحة".
إن أيًّا منا إذا فتح شباك غرفته ليسمح بدخول أشعة الشمس وهي مشرقة، فنورها يطهر الغرفة من الكائنات الحية الصغيرة جدًّا من الجراثيم والميكروبات التي لا ترى بالعين المجردة، يمكن معاينتها بالميكروسكوب فقط، توجد في التراب والماء والهواء والأجسام، وهي ناقلة للأمراض المعدية، فتملأ الغرفة، ويتلوَّث الهواء الذي يتحول إلى رائحة كريهة نتنة، وسموم قاتلة نتيجة الإفرازات الكيميائية؛ فالقرآن نور يشع في العقل، فيوقظه، ويطرد كل ما يَشغَل باله، وما يؤرق فكره (وخاصة الأفكار الميتة البالية)، وبهذا فهو يحميه من كل اضطراب ووساوس وأمراض نفسية، فيعيش المرء عيشةً طبيعية هادئة كإنسان راقٍ ذهنًا وخُلقًا.
(راجع مقالنا: "الثقافة والإنسان المثقف" الفقرة الأخيرة، بداية من: فكل إنسان مطلع على أفكار.. إلخ) في شبكة الألوكة على الرابط: http://www.alukah.net/culture/0/102428/
أخي الكريم، أختي الكريمة، أيها الإنسان الحي المسلم، إن القراءة تجعل الأحزان والهموم تتبدد وتتلاشى مثلما يتبدد الغمام في السماء.
وكل إنسان، مهما كان، في حاجة إلى:
• أن يحدث فيه رجة داخلية تجعله يتحرك من الداخل لإصلاح نفسه.
فقراءة القرآن والعمل به يجعلك تعيش إنسانًا حقًّا، وإذا عشت إنسانًا حقًّا، كنت الإنسان الناجح السعيد، ذا شخصيةٍ متوازنة معتدلة، ضابطًا لسلوكه، تسير بخطًى محسوبة، ناجحًا في حياتك الخاصة والأسرية والعملية، وكل ما يتصل بالوَضْع الاجتماعي عامة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 53] صدق الله العظيم.
[1] جوزيف إرنست رينان (رينو): Joseph Ernest Renan (28 فبراير 1823 - 1892) - فرنسي عالم اللغات، ومؤرخ، وفيلسوف، وكاتب.
[2] صموئيل سمايلز: مؤلف وطبيب أسكتلندي (07 جوان 1839 - 15 مارس 1914).
[3] بنيت أرنولد: 1867 -1931، روائي وكاتب مسرحي إنجليزي.
[4] ماركوس أوريليوس: كان إمبراطورًا، حكَم روما من عام 161 إلى عام 180م، وكان الأخيرَ في سلسلة من الحكام الذين كانوا يسمَّوْن بالأباطرة الخمسة الطيبين، والمؤرخون يعتبرونه أحدَ أهم الفلاسفة الرواقيين.
أما كتابه المشهور "التأملات": فهو مجموعة من التمارين الفلسفية، التي تُعْنَى بتحليل أحكام الإنسان على الأشياء، ومحاولة استنباط فكرة أو منظور شامل عن الكون.
[5] الدكتور فاندويك محمد الهادي: راجع مقالنا: "اقرأ كل يوم آية"