العودة إلى القرآن
إسلام فتحي
أيامٌ ويأتي علينا شهر رمضان (شهر القرآن)، ولعلَّ رمضانَ من كل عام هو فرصةٌ لإصلاح عَلاقتنا بالقرآن، واستعادةِ اتصالنا به، وانتفاعنا بجميل فوائدِه.
لا يخفى على أيِّ متابعٍ مدى الجفوة والبُعد بين المسلمين وكتابِهم؛ فأصبح من النادر أن تجدَ مسلمًا يفتح مصحفَه كلَّ يوم، مع أن النصوصَ ورَدَتْنا أن النبيَّ محمدًا لم يَدَع يومًا وِردَه من القرآن، والأكثر نُدْرةً أن تجد شخصًا يُواظِب على وِردِه القرآني قائمًا بآدابه من تدبُّر وخشوعٍ، وتفهُّم لمعاني الآيات، ومقيمًا لسلوكياتها في نفسه.
ونحن ندَّعي أن نهضةَ هذه الأمة وصحوتَها لا تبدأ إلا في ظِلال هذا القرآن، وليس من حقِّ أحدٍ أن يلومنا؛ فإن الفلسفات الوضعيَّة والتوجُّهات السياسيَّة التي تحكم العالم منذ عقودٍ من الزمن لا يستحي أصحابُها أن يعلنوا عن مرجعيَّاتهم من كتب مفكرين ورسائل فلاسفة، ونحن بذا أولى؛ إذ إننا نتكلَّم عن رسالةٍ هي وحيٌ من الله العليمِ الخبيرِ الحكيمِ اللطيفِ، الذي خلق البشرَ، ويعلمُ ما يصلح حالَهم، ويقيم شؤونهم.
وأما كَبْوتُنا وانحطاط مجدِنا، فمرجعُه ليس إلى القرآن؛ وإنما لبُعدنا عنه، وإهمالنا لتعاليمِه، وتضييعنا لآدابه وحدوده، والتاريخ ينبِّئُنا أنه ما استقامت هذه الأمة على كتاب ربِّها، وقامت بآدابه، إلا دانت لها الدنيا.
إن القرآنَ هو الرسالة الأخيرة التي جاءتنا من اللهِ سبحانه، وكلُّ رسالات الله وأنبيائه تتجلَّى وظيفتُهم في هداية البشريَّة إلى الصراطِ المستقيمِ، واستخراج الناس من عبادة العبادِ إلى عبادة اللهِ وحدَه، ومن جورِ الأهواء والطغيان إلى عدل الحقِّ والرشاد، وهذا عن طريق إعادة صياغةِ النفوس وتخليصِها من أيِّ كدرٍ أو شوائب لَحِقَتْ بها، ومتى فهمنا وتذكَّرنا وظيفة القرآن، زادت قيمتُه في قلوبنا، وتغيَّر إقبالنا عليه.
فنحن إذًا لا نقرأ القرآن تلهِّيًا بشيء عديمِ الفائدة، أو ترنُّمًا بكلمات غيرِ مفهومة، أو تشدُّقًا بصيحات خرافيَّة؛ وإنما نقرؤه لأنه رسالةُ الله إلينا التي فيها هدايتُنا وسعادتنا، نقرؤه قراءةَ الجندي الذي ينتظر الأمرَ ليُنفِّذه، وقراءة الواعي الذي يمرُّ على المعنى فيتدبَّرُه.
لا أدَّعي أنه بمجرد تحسين علاقَتِنا بالقرآن سيتغيَّر حالنا، ولكني أجزمُ أنه لن يتغيَّر حالُنا إلا إذا بدأنا بتعمير علاقتنا بالقرآن أفرادًا ومجتمعات، لقد تجوَّلنا على كل موائدِ الأفكار والمذاهب والفلسفاتِ؛ وما جنينا إلا التِّيهَ والتخبُّط ودركَ الشقاء، فهلَّا حان لنا - على الأقلِّ كأفرادٍ - أن نتناولَ من مأدبة اللهِ، ونتفاعلَ مع توجيهاته سبحانه؛ لعلنا ندركُ ما نبحثُ عنه من السعادةِ والهناء والسكينة؟!
إن البدايةَ تكمنُ في إيماننا بقدرة هذا القرآنِ على إعادة صياغة نفوسِنا، وفعاليَّته بتغيير أحوالِنا، ثم بعد ذلك علينا بالعزمِ بألَّا يمرَّ يومٌ إلا ونكون اصطحبنا فيه المصحفَ، أو مر على سَمْعِنا بعضُ آيات القرآن، والأهمُّ من ذلك أن نسعى لتدبُّر وفهمِ ما نقرأُ أو نسمع من القرآن.
إن أحدنا يعيدُ قراءةَ فقرةٍ ما في أيِّ كتاب عدَّة مرَّات من أجل أن يفهمَها، فالقرآن أولى بذلكِ الاهتمام؛ فلا يجب أن نقرأَه وهمُّنا إنهاءُ الصفحة أو السورة، بل يجب أن نعيَ جيدًا ما نمرُّ عليه من كلمات القرآن، ونستخلص العِبرَ منها.
فجميلٌ أن تكونَ عودتُنا السنويَّة إلى القرآن في رمضانَ هذا العام مختلفةً عن الأعوام السابقة؛ لتكون أكثرَ فاعليَّة وتأثيرًا، وأدومَ بقاء وثباتًا.