يروي الكاتب المصري المعروف الأستاذ/ مصطفى أمين - رحمه الله - الذي كافح وناضل ضدّ المد الاشتراكي، ويقول: "أدخلت السجن عام 1965م ـ قبل أربعين سنة، وتنوعت وسائل التعذيب هناك، حتى منعت من الطعام والشراب، والحرمان من الطعام مؤلم ولكنه محتمَّل، أما الحرمان من الماء فإنه عذاب لا يحتمَل، ولاسيما في فصل الصيف ولمن هو مصاب بالسكر مثلي، اشتدّ بي العطش وأخذت أدور في الزنزانة كالمجنون، وكنت أهوى إلى الأرض أحيانًا، ألحسها لعلّ الحارس ترك نقطة ماء وهو ينظف البلاط، فاضطررت لشرب البول ـ أجلكم الله ـ حتى ما عاد هناك بول أشربه، وشعرت أني قد أشرفت على الهلاك، بينما أنا كذلك وفي ظلمة الليل وإذا بباب الزنزانة يفتح بهدوء، ويمتدّ إلي كأس ماء من شخص وضع يده على فمي وقال بصوت منخفض: لا تتكلم. لم أصدق ما رأيت، أحسست بسعادة لم أعرفها طول حياتي، إذ إنني رأيت عناية الله، اختفى الحارس المجهول بسرعة كما ظهر بسرعة دون أن أعرفه، ولكني تعرفت على بعض ملامحه، وذات يوم رأيته، فقلت له: لماذا أقدمت على هذه المغامرة الخطيرة؟! لو ضبطوك كانوا سيقتلونك، قال: يا سيدي، أنت لا تعرفني، ولكني أعرفك جيدًا، ولن أنسى فضلك في شهر رمضان المبارك، وقبل تسع سنوات أرسل لك رجل فقير خطابًا يقول لك فيه: إنه فلاح بسيط ومكث سبع سنوات يقتصد من قوته وقوت أولاده حتى جمع مالاً واشترى به بقرة، وكانت هذه البقرة سببًا لرزق الأسرة كلها، وبعد أشهر ماتت البقرة، وأوشكَت الأسرة على الهلاك، وإذا رسول منك يطرق الباب ومعه بقرة صدقةً حسنة منكم يا سيدي، سكت الحارس المجهول قليلاً ثم قال: هذا الفلاّح الذي أرسلتم له البقرة هو أبي، وها قد أرسلني الله لك بعد تسع سنوات لأردّ إحسانك"، وصدق الله العظيم: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)، [الرحمن:60].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه).
فالجزاء من جنس العمل.
منقول