المحاضن التربوية.. وتمثُّل القرآن
. ريان عبدالله السيف
حظيت المكتبة التربوية بمادة متظافرة من الأطروحات التي تُعنى بمعالجة البناء الإيماني في المحاضن التربوية بوصفه هدفاً مركزياً في تكوين الشخصية المسلمة، وبوصفه غاية الوجود المتمثلة في التقرب إلى الله عز وجل وتحصيل رضوانه. ولم تخلُ هذه الأطروحات من أهداف ووسائل تخدم تحقيقها، وسأتجاوز هذا لأقدّم الحديث بين يدي القارئ عن التأمل في علاقة المحاضن مع القرآن بمقدمات أساسية في البناء الإيماني:
1- ضرورة حضور معنى القدوة وامتثال المربي أولاً لما يدعو له، وعنايته بتزكية قلبه وتحقيق معاني الإيمان في نفسه؛ فالإيمان امتزاج روحي لا يُتكلف، وإن أثمر التكلّف ساعة فإنه سرعان ما ينكشف في المحكات التي هي أزهى فرص غرسه حقيقة في نفوس المتربين.
2- حضور هم البناء الإيماني كهدف ثابت في تفاصيل البرامج المطروحة وكشعور حاضر في شخص المربي يبعثه على استثمار المواقف والمواسم لتزكية القلوب، وإذا حضر هذا الهدف كهاجس عند المربي فإنه سيجيد توظيفه بالوعظ والتذكير واستثمار الأحداث، وهذا من الأساليب النبوية الظاهرة في التربية.
3- التدرج في إيصال هذه القيم وغرسها وتعاهدها، فمعاني الإيمان إنما تعمر في القلب مع طول المعايشة والتعاهد ودوام الذكرى، واستغلال مواطن حضور القلب وإقباله، دون استعجال الثمرة.
لقد حضر هدف العناية بالقرآن وتعليمه في العملية التربوية ممثلاً في حلقات التحفيظ، بوصف الاجتماع على القرآن آكد الوسائل لتزكية النفوس، ومرتكزاً رئيساً في البناء الإيماني؛ لذا كان هدف ربط الشباب بالقرآن والتحلق حوله من هذا المنطلق ابتداء، إلا أن الأمر آل كثيراً مع مرور الوقت إلى الاستغراق في الوسيلة، وهي الاهتمام بالتحفيظ على حساب الغاية، وهي انعكاس أثر القرآن في قلب المتربي، فكاد الأمر أن ينحصر في تراكم يومي من الأوجه يهذّها الطالب لتعرض كأرقام في نهاية العام دون أن يعيش في ظلالها ويتعرض لنفحاتها، بل انقلبت لتكون تراتيل يتحفظها بقلب شارد عن روحها ومعانيها.
ولا شك في أن الهدف الرئيس للمحاضن التربوية هو تحقيق التزكية، والقرآن جاء موعظة وهداية، وشفاء ورحمة، وبشارة ونذارة، ولا يتأتى تحقيق ذلك إلا بشيء من فقه الصحابة في هذا نستقيه مما جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجاوزون العشر حتى يعلموا ما فيه من العلم والعمل. قال: «فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً». لقد كان هذا الفقه حصيلة فهم الآيات المتواترة في كتاب الله في الحث على التدبّر وإعمال التفكر، وكسر الأقفال الحاجبة عنه، وقد كان الفضيل – رحمه الله – يقول: «إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً. قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه». وجاء عن ابن مسعود أنه قال: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بِلَيلِه إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون).
فالذي يعنينا من هذا أن مربط الفرس هو انعكاس هذه الآيات وهداياتها في قلب المتربي، وصياغة العلاقة بالقرآن كقيمة أساسية لديه، والانطلاق منه كمصدر، لا مجرد استجابة لمتابعة إدارية؛ فعلاقة المتربي بالحلقة هي سنوات قليلة، وكم حافظ للقرآن جفى صفحاته فور تخرجه، بل ربما نسي حفظه مع بُعد العهد فصار حجة عليه، إذ لم يكن حضور القرآن في حياته إلا مجرد واجب من واجبات المحضن؟!
وقد تكثف في هديه صلى الله عليه وسلم الحث على التدبر والتفكر كما جاء في الحديث: «لقد نزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إن في خلق السماوات والأرض»[1]. وأثر عنه صلى الله عليه وسلم الوعظ بالقرآن، حيث جاء عند الترمذي: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: (يا أيها الناس اذكروا اللّه! جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه).
والسؤال الذي يهمنا بعد هذا: هل الأولوية لتحفيظ القرآن ثم تأتي التزكية تبعاً، أم أن الأصل هو التزكية التي هي ثمرة العملية التربوية ويأتي تحفيظ القرآن كإحدى وسائلها؟
إن حُسن الإجابة عن هذا السؤال من شأنه أن يعيد تشكيل تصوّرنا للمطالب التي نرجو تحقيقها في المتربين، وحل تعارض الهدف التربوي العام مع مطلب تحفيظ القرآن.
إن ثمرة التربية بالقرآن تتجلى حين تصطف الأقدام في جوف الليل يحدوها {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}، وحين يخفض جناح الذل مؤتمراً {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا}، وحين يلهج اللسان بامتثال الوصية القرآنية {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}، وحين تسكن النفس بموعود {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}... إلى غير ذلك من هدايات القرآن ومواعظه المديدة.
«فلا تزال معانيه تنهض بالعبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل»[2].
يقول فريد الأنصاري - رحمه الله -: (إن هذا الهدف العظيم لا يمكن أن يتحقق للإنسان إلا بعقد العزم على الدخول في مجاهَدات ومكابَدات مستمرة؛ للتحقق بمنازل القرآن ومقاصده التعبدية، من الاعتقاد إلى التشريع، إلى مكارم الأخلاق وأشواق السلوك، سيراً بمسلك التلقي لحقائق القرآن الإيمانية، والمكابدةِ الجَاهِدَةِ لتكاليفها الشرعية، والسير إلى الله من خلال معراجها العالي الرفيع)[3].
وشهر رمضان غنيمة للمربي ومُنطلق للتغيير، حيث النفوس مقبلة والقلوب متعطشة. وما أزكى نفحات هذا الشهر الكريم وما أسنح الفرصة فيه لإعادة تأسيس علاقة محاضننا مع القرآن وربطه بتربيتنا والانطلاق منه في تهذيب نفوسنا. ومن الوسائل المهيّأة في ذلك: التحلق حول حزب من القرآن وتقسيمه على أيام الشهر، ثم تدارس كل مقطع منه واستخراج دروسه ومواعظه والتواصي عليها، وتسخير بقية الوسائل لترسيخها وتمام تحقيقها وامتثالها من المتربين.
ومن الوسائل أيضاً أن يهيئ المعلم ذاته للوقوف مع الآيات حين يتلوها عليه الطالب ولا يكتفي بمجرد تقويم التسميع، وما أكثر ما تمر مواضع يجدر الوقوف عندها وإطلاق التدبر فيها، فإن هذا من شأنه أيضاً أن ينمي ملكة الطالب لحسن الوقوف مع الآيات وتفهمها، إضافة إلى الأثر القلبي عليه، ومن هذا ما ذكره ابن الجوزي عن أحد شيوخه حيث قال: (فاستفدت ببكائه ما لم أستفد من روايته)[4].
كما أن مشاريع التدبر في الحلقات القرآنية جديرة بالرعاية من المراكز ذات الشأن، بإعداد حقائب متكاملة تحوي وسائل لتقريب تفاسير القرآن وإرشادات الآيات بما يناسب المتلقين في هذه المحاضن.
وخاتمة المطاف أن المحاضن التربوية حققت نقلة ظاهرة في تحفيظ القرآن الكريم حتى لا تكاد تخطئ مسجداً يخلو من هذه الحلقات المباركة، وهي مرشحة اليوم لدور أكبر في علاقتنا مع القرآن، فما أعظم الغبن حين نتلو أن هذا الكتاب جاء {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: ظ¢]، و{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، ثم لا تستنير به قلوبنا ولا يهتدي به سيرنا.
[1] السلسلة الصحيحة(1/106).
[2] مدارج السالكين (1/452).
[3] مقالة بعنوان (هذه رسالات القرآن) لفريد الأنصاري.
[4] صفة الصفوة (1/563).