محنة الدعوة في أزمة دعاتها
تامر الشبينى
حمدًا لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى.
أمَّا بعدُ:
فإن أزمة الدعوة اليومَ - بمفهومها البلاغي - باتَت معلومة غير مجهولة، معروفة وليست مُنكَرة؛ حيث يُدركها أهل هذا الفن وأصحاب هذا الميدان؛ إذ وجَدنا دعاةً لا حظَّ لهم من علمٍ، ولا مقدارَ لهم من فَهمٍ، ولا نصيبَ لهم من خُلقٍ، ففي ميدان القرآن صاروا أهل لَحنٍ، وفي رحاب السنة أضحَوا بلا ضبطٍ، وفي مجال الفقه عُلِموا بلا رشدٍ، وفي اللغة - لسان العرب - خُبِروا أهلَ عِيٍّ، بل زادوا الطين بِلَّة، والمريضَ عِلَّة، حينما قدَّموا السُّنة على الفرض، والنفْل على الرُّكن، والمكروه على الحرام، والمختلَف فيه على المُتَّفق عليه، فبغَّضوا الله إلى خلْقه، والإسلامَ إلى أهله، وأساؤوا عرْضه خارج أرضه.
وجَدنا دُعاة أظهروا العبوس بدلاً من التبسُّم، وقدَّموا التجهم والكآبة على خِفَّة الظلِّ والابتسامة، بل إذا أخطأ أحدهم وتبسَّم، فهي ابتسامة صفراء لا حقيقة فيها، ولا رُوح لها، ولا صِدق في عرْضها؛ إذ إنها تُضمِر كيدًا، وتُخفي حِقدًا، كما أنها تُظهر بِشرًا مُزيَّفًا، بل إن تلك الابتسامة ما ظهَرت - على ما بها من عَوارٍ - إلا لنيْل مَغنمٍ، وإدراك مأربٍ، وتحقيق مصلحة، وإذا عاتَبت وتكلَّمت مع أحدهم مُخبرًا إيَّاه بسوء فعْله، وقبيح خُلقه، قابَلك بكلِّ تبجُّحٍ قائلاً لك - ظنًّا منه أنه أَلقَمك حجَرًا في فيك -: أتدخل في القلوب والضمائر؟! أتحكم على الأفئدة والسرائر؟!
أفتلك هي الدعوة؟!
أهذي حقيقة الرسالة؟!
لك الله يا دعوة الإسلام!
وجَدنا دُعاةً أخذوا من الإسلام شكْله، ومن الدعوة جِلبابها، ومن الشريعة كلماتها، طنْطَنوا في كل مناسبة بعبارات محفوظة، وكلمات للعوام أصبَحت معلومة، فهِموا الدعوة وظيفةً ولم يعرفوها رسالةً، حسِبوها دَفتر حضورٍ وانصرافٍ، ولم يُدركوها ألَمًا في القلب، ووجعًا في النفس، وغُصَّة في الحَلْق، وشوكة في اللَّها.
انتَفعوا هم بالدعوة، وما انتفَعت الدعوةُ بهم، أساؤوا إليها، وأحسَنت إليهم، رفَعتهم وما خفَضتهم، وأغنَتهم وما أفقَرتهم، ظهروا أمام الناس يمثِّلون الإسلام، وهم في الحقيقة يَستَترون فيه، ارتادوا كلَّ الموالد، أكلوا على كل الموائد، باعوا الإسلام بأبخس الأثمان، واشتَروا الدنيا بمعشارٍ من الدرهم والدينار، قدَّموا الباقي على الفاني، وآثروا الحاضر على الغائب، اغتالوا الناس باسم الدين، ذَبحوهم بالقرآن، قتَلوهم بالسُّنة، ضيَّقوا عليهم بالفقه، وإذا تكلَّمت أو نصَحت، قالوا لك: نحن أهل الدعوة ولسان حالها!
أفتلك هي الدعوة؟!
أهذي حقيقة الرسالة؟!
لك الله يا دعوة الإسلام!
وجَدنا دُعاة تخرَّجوا في مؤسَّسات رسمية، وهيئات حكومية، يَحملون إجازات وثناءَات وشهادات، بيد أن واقعهم الدعوي يُبدي كلَّ سَوءة، ويُظهر كلَّ عَورة؛ حيث ظنَّ هؤلاء في أنفسهم أنهم الأعلمُ من غيرهم، والأقدر على الدعوة ممن سواهم، فُرِض عليهم أن يتكلَّموا، ووجَب على غيرهم أن يَصمتوا، هم أهل المقدمة دائمًا، وحتمًا غيرهم في المؤخرة، يَملِكون العلم والآخرون يَمتلكهم الجهلُ، ناطَحوا العلماء، وازْدَروا الدعاة، وقالوا: نحن رجال وهم رجال، العين بالعين، والسن بالسنِّ، والجروح قِصاص، أعدَل الناس إذا حكموا، أفصَح الخلْق إذا نطَقوا، ألْسَن من سيبويه، وأفْقه من الشافعي، وأوْرَع من الهروي، وأزهَد من البصري، وأحْفَظ من العسقلاني، رأيهم هو السديد، وعندهم كل جديد، ولِمَ لا؛ فهم أهل الحَظوة والخطوة؟!
أفتلك هي الدعوة؟!
أهذي حقيقة الرسالة؟!
لك الله يا دعوة الإسلام!
وجَدنا دُعاة فهِموا الدعوة أحزابًا، واشتراكات وتنظيمات، ارتَموا في أحضانها، وتفانَوا في سبيلها، يُوالون من وافَقهم، ويُعادون مَن خالفهم، يَغضبون لحزبهم أكثر من غضبهم لإسلامهم، يَعرفون عن قادتهم ما لا يَعرفونه عن صحابة سيِّد الأنام - عليه الصلاة والسلام - القادة عندهم لا يُخطئون، بل - للأسف آلهة من دون الله يعبدون، القرارات لا تُراجع، السياسات قرآن، الأيديولوجيات معصومة، الأصول تُحفظ ولا تُنسى، وتُرعى ولا تُهمل، القرآن نزَل لهم دون غيرهم، فهم الذين يَفقهونه ويَفهمونه، وغيرهم لا يعرفونه، بل يَجهلونه، رأيهم صواب لا يَحتمل أيَّ خطأ، ورأي غيرهم خطأ لا يَحتمل أي صوابٍ، لا يَسمعون إلا لِمَن وافَقهم، ويُبغضون مَن خالَفهم، بل إذا حدَث والتقَت الآراء ووافَقتهم في مسألة، فإلى عَنان السماء رفَعوك، وإذا اختلَفت وأفصَحت، وناقَشت، فتَحتَ الأحذيةِ وضَعوك، وأهالوا التراب عليك وعلى تاريخك، وانهالَت الأسهم عليك من كلِّ حدَبٍ وصوبٍ، وأوْعَزوا إلى صغارهم وصِبيانهم أن يُعلنوا الحرب عليك؛ وذلك بالانقطاع عنك، وعدم الاستماع إليك.
يظنون أن الحق المَحض معهم لا مع غيرهم، والباطل البَحت لا يعرفهم ولا يَعرفونه، بل هو دائمًا من نصيب غيرهم، كما أن الغير عندهم لا يُجيد إلا الكلام والعتاب، والجدال والمَلام.
الإسلام عندهم لا عند غيرهم، القرآن قرآنهم، الرسول رسولهم، الصحابة هم أعلم الناس بهم، يقولون دائمًا: الرأي رأيُنا، والقول قولنا، والتمكين لن يكون إلا لنا، وإذا تكلَّمت وعارَضت، اتُّهِمت في دينك بالرِّدة، وفي نيَّتك بالسوء، وبأنك خُنت الأمانة، وضيَّعت الرسالة، ونقَضتَ العهد مع الله، وتحقَّقت لديهم بالنجاسة المعنوية دون الحقيقية، بل والحقيقية أحيانًا.
أفتلك هي الدعوة؟!
أهذي حقيقة الرسالة؟!
لك الله يا دعوة الإسلام!
إن البون شاسعٌ، والفرق بعيد بين هؤلاء وبين الدعوة!
إننا نريد داعية يجعل القرآن صديقه، والليل أنيسَه، والكتاب جليسه، والدفتر حليفه، والقلم سلاحه، واللسان تُرجمانه، مُقيمًا للصلاة، مطعيًا لله، مُتأسِّيًا برسول الله، عينه دامعةٌ، قلبه خاشع، لسانه ذاكرٌ، عقله في دعوته يفكِّر، نفْسه وَجِلةٌ، سريعَ البديهة، قويَّ الذاكرة، حاضرَ الجواب، وقورًا في مِشيته، عفيفًا في كلامه، جميلاً في هِندامه، مُرتَّب العبارات، مُنظَّم الكلمات، حادًّا في الحق، متحلِّيًا بالصدق، متوشِّحًا بالعِفَّة، مُتزوِّدًا بالتقوى، مُجاهدًا لنفسه، بالله يَعتصم، ومنه يستمدُّ وعليه يتوكَّل، يتحلَّى بالفضائل، يتخلَّى عن الرذائل، يترفَّع عن السفاسف، همُّه الأول دعوته، لا حياتُه ولا أُسرته، يُعطيها كلَّ ما يَملِك من نفسٍ ونفيسٍ، وغالٍ ورخيص، يَدفع عن حِياضها، يتفانَى في سبيلها، بل ويُقاتل من أجْلها؛ حتى يَلحق بالذين: ﴿ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
إننا نريد داعية تكون دعوته لله خالصةً، من القلب نابعة، من كلِّ لون متجرِّدة، يُحدِّد هدفه، يَرسُم خُططه، يُنوِّع وسائله، يتعلَّم من ماضيه، يُعايِش حاضره، يَستشرف مستقبله، يرتبط بمَدعويه، لا يأنَف منهم، ولا يَشمَخ عليهم، بل يَودُّهم ويَودُّونه، ويُهاديهم ويُهادونه، يُعطيهم ويُعطونه، يَبَشُّ في وجوههم، يأخذ بأيديهم، يُقرِّب المعاني، يوضِّح الأمور، يُيَسِّر الإسلام، يُنوِّع موضوعاته، يَرتبط بالأصل ويتَّصل بالعصر، يُوازن بين التراث والمعاصرة، يُخاطب كلَّ التيَّارات، يَنفتح على كل المجتمعات بما يحقِّق هدفه ولا يتعارَض مع دعوته؛ حتى يكون ممن يَصدُق عليهم قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].
إننا نريد داعية يُقنع العقول، ويَستميل القلوب، ويخاطب النفوس، يَشحَذ الهِمم، يحرِّك العزائم، يقوِّي الإرادات، يَدحَض الشُّبهات، يردُّ على المُفتريات، يَعِظ ويَخطب، يُحاضر ويَكتب، يحلِّل ويناقش، يُخاطب ويُجادل، يَقرَع الشُّبهة بالحُجة، يذكر الدليل تِلْو الدليل، والبرهان وراءه البرهان، ثم يُلقِم خَصمه حجرًا لا يَنطق بعده، يَحذو حَذْو السابقين، يسير على دَرْب اللاحقين، يَضرب في كل صوب بسوطٍ، وفي كل وادٍ بسهمٍ، يأخذ من العلوم ما يخدم دعوته، ويَرفع رسالته، فمن الجغرافيا يأخذ من الإدريسي، ومن الطب يتعلَّم من الزهراوي، وفي الرياضة يُبدع كالخوارزمي....، وهكذا يسير ويسير، يَصول ويَجول، مُؤمنًا بدعوته، مُعلنًا لها، راجيًا لها الازدهار والاتِّساع والانتشار؛ حتى يكون ممن يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
إننا نريد داعية يجعل كتابَ الله قائدَه، ونبيَّه مُعلِّمَه، وصحابته أئمَّتَه، فمن كتابٍ يَنطلق، وعن رسولٍ يأخذ، ومن صحابتِه يتعلَّم، وبسِيَر أعلام الدعوة يتحرَّك، يَجمع بين القرآن والسنة، والآية والحديث، ثم يُتبِع ذلك بالأثر، ثم يُذيب الجميع في كوب واحد، ثم يُقلِّب، فيَرفع، فيشرب، فيرتوي، فيَتداوى دواءً لا سُقْمَ بعده.
يهتمُّ بالأصول، يركِّز على القواعد، يُقدِّم الحديث عن الأخلاق، يؤخِّر الكلام عن الاختلافات والجزئيَّات، والفرعيَّات والقشوريَّات، يَنتقل من مكانٍ إلى مكان، ومن موطنٍ إلى آخر، ناشِرًا دعوته، مُعلنًا رسالته، يرجو رضا الله، يَبغي ثوابه، يخاف عقابه، يعلم أن الآجال بيد الله، والأرزاق مقدَّرة عند الله؛ ولذلك فهو لا يَخشى في الحق لومةَ لائمٍ، ولا سَطوة متجبِّرٍ، لا يَرهَب من الموت إن نزَل، ولا من الهلاك إن حلَّ، يَحمل هَمَّ الإسلام في كلِّ مكان، يعيش بقلبه في فلسطين، وبعقله في العراق، وبرُوحه في أفغانستان، وبجسده في مصر، يُناصر المجاهدين، يشدُّ من أَزْر المُضطهدين، يدعو لفكِّ أسْر المسجونين، لا يكتفي بالقول، بل يؤيِّد القول بالفعل، والكلمة بالعمل؛ حتى لا يكون ممن يَنطبق عليهم قوله تعالى: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3]، وقوله: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88]، وقوله: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44].
وختامًا؛ فهذا هو الداعية الذي أحلُم به وأدعو إليه، فهل تستطيع المؤسَّسات العالمية - من أزهرنا الشريف، وجامعة الزيتونة، وجامعة الإمام سعود، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - أن تُرَبيَ لنا ذاك الداعية؟!
اللهمَّ آمين!