العولمة الثقافية
أ. د. علي بن إبراهيم النملة
هناك مَن يدافع عن العولمة، ويرى أنها منهج جديد، سلَخ ما وراءه من خلفيات احتلالية، وجاء ليبشر بالشمولية من خلال سعادة البشرية، وتعميق أواصر الرابطة الإنسانية، وأن الذين يُعيدون العولمة إلى تلك العوامل المذكورة أعلاه إنما يوظِّفون مخزوناتهم الفكريةَ القائمة على هاجس الاحتلال والغزو الثقافي، أو الغزو الفكري.
هذا الدفاع عن العولمة هو أحد المسارات التي تتجاهل نظريةَ المؤامرة، أو بالأحرى تَنفي وجود مؤامرة من نوع ما[1]، في الوقت الذي يؤكد فيه فريقٌ آخرُ أن العولمة شكل جديد من أشكال الغزو الثقافي، وأن العولمة "تحمل دائمًا في طيَّاتها نوعًا أو آخرَ من الغزو الثقافي؛ أي: مِن قهر الثقافة الأقوى لثقافةٍ أخرى أضعفَ منها"[2]، إن المسألة لا تتعدى هنا الانتقال بالكون من قريةٍ كبيرة في الماضي إلى قرية صغيرة في الحاضر، وتتصاغر هذه القرية تِباعًا مع الأيام.
لا يَحسُن تجاهلُ البُعد الثقافيِّ في هذه القرية التي تَصغُر مع الأيام، ناهيك عن الأشهُر والسنين، والمراد هنا ليس الغزوَ الثقافي من ثقافة مهيمنةٍ على ثقافة مهيمَنٍ عليها، وإن كان هذا من الأبعاد التي لا تُتجاهَل، فالعولمة مهدِّد لمسخِ جميع الثقافات، وصَهرِها في ثقافة المجتمع التقني (التكنولوجي) الحديث، كما يحلو للدكتور جلال أمين أن يَستأثر بهذا الإطلاق؛ حيث تَنتفي الثقافة في هذا المجتمع[3].
لعل التصويت على عدم إقامة مآذنَ للمسلمين في دولة أوربية قد أخَذ من العولمة والعلمانية حجَّة للنفوذ إلى كسر المدِّ الإسلامي المتنامي في الغرب، في ضوء القلق الفكري والعقَدي المهيمِن على ذَوي الثقافة الغربية، فهو قرارٌ لا يَخلو من نظرة يمينية متطرفة، لا تغفل الدين في منطلقاتها، وإن كانت حجتها أن رفع المآذن يتَنافى مع روح العلمانية الشاملة، التي تَقتضي في المقابل منعَ بناء الكنائس والبِيَع ودُور العبادة الأخرى، كما يتنافى مع روح العلمانية الجزئية التي تَفصل الدين عن الدولة، لكنها لا تتعرض للحريات الدينية والخصوصيات الثقافية للمجتمعات، وليس ذلك كله إلا سعيًا إلى ثقافة عولمية متعلمِنة.
وليست حادثة منع المآذن في سويسرا هي الأولى، ولن تكون الأخيرة؛ إذ إن هناك مشروعات أوربية سابقة كمسألة الحجاب في فرنسا، وأخرى لاحقة كمسألة أن يَربط المسلم على ذراعه "سريحة" خضراء ليُعرَف أنه مسلم، أو تجميع المسلمين في أحياء خاصة بهم يُمارسون فيها خصوصيتهم الثقافية.
تأتي هذه المشروعات غير المنطقية التي تتنافى مع ادعاء الديمقراطية غير المنحازةِ على علمٍ من الاتحاد الأوربي؛ لتؤكد للمواطن الأوربي أيًّا كانت هُويَّته الثقافية أن المراد من ذلك الحدُّ من انتشار الإسلام في الغرب، مما سيكون له آثار إيجابية على المجتمع الغربي في تفَهُّمه للإسلام، ثم الإقبال عليه، وقد قيل: إن مُواطنًا أوربيًّا قد بَنى منارة على بيته؛ تعبيرًا عن احتجاجه على فكرة التصويت على التضييق على المسلمين في الغرب بدعوى الانصهار في عولمة ثقافية مُعلمَنة.
إلا أن (أنتوني كنج) يستبعِد العولمة الثقافية؛ ذلك أن المشهد الثقافي الحاضر هو من التعقيد والتعدد بحيث يتعذَّر صهرُه في بوتقة واحدة، بغضِّ النظر عن وجهتها؛ "فالناس تنتمي لعدَّة ثقافات مختلفة، والاختلافات الثقافية قد تكون داخل الدولة - أي: بين الأقاليم والطبقات والجماعات العِرقية الحضرية والريفية - أو بين الدول، وينتقل المعماريون وخبراءُ التخطيط بين نيويورك ولندن وبومباي بصورةٍ أيسَرَ من تنقُّلِهم بين بومباي وقرى ماهارشترا"[4].
• لو تجاهلنا البُعد الثقافي ونظَرنا إلى العولمة من منطلق اقتصادي بحت؛ فإننا نجد مَن يؤكد قِدَم العولمة، يقول أحمد هاشم اليوشع: "العولمة ظاهرة قديمة جدًّا، وهي تعبِّر عن سعي الإنسان للبحث عن أسواق جديدة لتوزيع منتج أو للحصول على عوامل الإنتاج - العمل ورأس المال - فهي تعبيرٌ عن سعي حثيث يَصعُب ربطه بتفكير أو فترة زمنية محددة، وما نعرف عنها أن الدافع الرئيسي لانتعاشها يكاد يقتصر بشكل أساسي على تعظيم الرِّبحية وزيادة الثروة... إن العولمة من منظور تاريخي ظاهرةٌ قديمة، تمتد لتشمل أي تجربة إنسانية ارتبطَت بالبحث عن أسواق جديدة؛ كرحلة كرستوفر كولومبس، أو رحلة الشتاء والصيف عند عرب الجزيرة العربية قديمًا"[5].
• يمكن أن يُقاس على هذه الرحلات القديمة رحلاتُ أهل الخليج في القرنين الماضيين، وقبل مرحلة اكتشاف النفط إلى الشرق - الهند تحديدًا - ورحلات تجار وسط جزيرة العرب "العقيلات" إلى الشام ومصر[6]، بحيث سرَت عبارةٌ في المنطقة تنصُّ على أن: "الشام شامُك إذا الدهر ضامك، والهند هندُك إذا قلَّ ما عندَك".
ولم تقتصر الهجرات على مصر والشام فقط التي ركَّز عليها النجديون[7]، بل شملت الشرق؛ كالهند وجزر الجنوب الشرقي لآسيا بالنسبة للحَضارِم والخليجيين، والغرب في الدول الإفريقية المتاخِمة لجزيرة العرب بالنسبة للحجازيين وأهل الباحة وعسير واليمن وعدن، وإن تكن هذه الجهاتُ الأخيرةُ مختلفةَ الظروف، وباعِثُها طلب العيش والتغلُّب على البطالة والفقر، ومع هذا فلم تتخلَّ هذه الهجرات عن خصوصيتها الثقافية، بل إنها هي من وسائل التوكيد على أن هذه الخصوصية الثقافية خصوصية دافعة، فقد أسهمَت هذه الهجراتُ في نشر الإسلام في المواقع التي هاجرَت إليها.
على أنَّ من الباحثين في تحرير مصطلح "العولمة" مَن لا يذهب هذا العُمق في التاريخ وإن اتفَق مع غيره على فكرة قِدَم المفهوم، وليس بالضرورة المصطلَح، ويعود ذلك إلى نشوء الرأسمالية "الأوربية في حركة تَناميها على مستوى الأسواق الأوربية الوطنية، ثم في خروجها من حدودها الوطنية إلى الأسواق العالمية في المستعمرات، أو في دول العالم الثالث؛ للسيطرة عليها من خلال الشركات ذات الصفة العالمية"[8].
إذا كانت العولمة ستسعى إلى توحيد العالم حضاريًّا، بفعل التقنيات الجديدة، "فلا يَعني ذلك أنها ستوحِّد العالم ثقافيًّا، أو أنها ستَقضي على الخصوصيات الثقافية"[9]، ولا يمكن فصلُ الثقافة عن الحضارة.
وفي هذا الصدد يقول الأمير سعود الفيصل: "مما هو مَدْعاة للأسف أن الفكر العربي لم يواكب ما حملَته المتغيرات الدولية المتسارعة من فُرص وتحديات، فبدلًا من التفاعل الإيجابي مع العولمة انشغَل بعض المفكِّرين بالتحذير من شرورها، وتهرَّب البعض الآخر من ممارسة النقد الذاتيِّ والتحليل الموضوعي في زمنٍ نحن أحوجُ ما نكون فيه إليهما... ولعل من أخطر التطورات الفكرية السلبية أن يَشيع لدى بعض العرب اليأسُ والقنوط، أو أن يَستبطنوا الهزيمة الداخلية، فيروِّجوا لخطابات اعتذارية غير مقنِعة، أو خطابات تثبيطية تُبالغ في جَلْد الذات واقتناص العيوب وتضخيم السلبيات"[10].
[1] انظر: علي بن إبراهيم النملة، هاجس المؤامرة في الفكر العربي بين التهوين والتهويل - بيروت المركز الثقافي العربي 1430هـ/ 2009م، ص 230.
[2] انظر: جلال أمين - العولمة، القاهرة: دار المعارف، 2002م، ص 50 (سلسلة اقرأ، 636).
[3] انظر: جلال أمين، العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث، ص 211 - 229، في مركز دراسات الوحدة العربية، العولمة وتداعياتها على الوطن العربي - بيروت المركز، 2003م، ص 258.
[4] انظر: أنتوني كنج، العمارة ورأس المال وعولمة الثقافة، ص 387 - 401ن - والنص من ص 398، في: ثقافة العولمة القومية والعولمة والحداثة/ إعداد مايك فيذرستون، ترجمة عبدالوهاب علون - القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة 2000م، ص 411.
[5] انظر: أحمد هاشم اليوشع، عولمة الاقتصاد الخليجي: قراءة للتجربة البحرينية - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003م، ص 22.
[6] انظر: نواف بن صالح الحلبسي، عصر العقيلات الجذور العربية في مصر والشام والعراق قطوف على هامش قصصهم في مهاجرهم، الرياض: المؤلف 1417هـ، ص 338، (سلسلة من تراث نجد مع قوافل تجارة العقيلات، 1)، وانظر أيضًا: إبراهيم المسلم العقيلات، الرياض: دار الأصالة، 1405هـ/ 1985م، ص 314، وانظر كذلك: عبدالرحمن بن زيد السويداء، عقيلات الجبل، حائل النادي الأدبي 1416هـ، ص 412.
[7] انظر: عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم، نجديون وراء الحدود: العقيلات ودورهم في علاقة نجد العسكرية والاقتصادية بالعراق والشام ومصر، بيروت: دار الساقي، 1991م، ص 312.
[8] انظر: عز الدين إسماعيل، العولمة وأزمة المصطلح، العربي، ع 498 (5/ 2000م)، ص 165 - 167.
[9] انظر: علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي 2000م، ص 37.
[10] انظر: سعود الفيصل بن عبدالعزيز (الأمير)، أزمة الفكر في العلاقات العربية - الغربية المعاصرة، في: المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي - القاهرة: المؤسسة، 2002م، ص 11 و 14.