واقعة غريبة راح ضحيتها شاب في مقتبل العمر، على يد رجل ستيني، قتله رميًا بالرصاص في الطريق العام، دون أسباب واضحة أو صريحة، مما أثار حيرة أسرة المجني عليه التي أصبحت مطالبهم معرفة لماذا قتل ابنهم؟!
مشهد النهاية كان كالتالي؛ أسدل الظلام ستائره على منطقة ميدان لبنان الشهيرة بمحافظة الجيزة، الساعة تقترب من الثالثة صباحا، بينما الهدوء يسود المكان، دوى إطلاق أعيرة نارية، يسقط شاب على الأرض غارقًا في دمائه، ما أثار ذهول ثلاثة من المارة كانوا متواجدين في نفس اللحظة.. وقفوا في حالة من الصدمة والاندهاش، الموقف يشل تفكيرهم، يسألون أنفسهم أي ذنب اقترفه هذا الشاب حتى يقتل هكذا؟، سرعان ما يصل أمر ما حدث إلى قسم شرطة العجوزة، ينتقل ضباط المباحث لمسرح البلاغ لفحص ملابساته؛ ليتم العثور على جثة شاب تسيل الدماء من رأسه نتيجة اختراق رصاصة لها من الجهة الخلفية، وتتوالى بعدها التفاصيل المثيرة.
كشف فحص متعلقات المجني عليه عن هويته تبين؛ أنه شاب يبلغ من العمر ٣٣ عاما، يقيم منطقة ميت عقبة، ويعمل مدير صيدلية على بعد أمتار من مسرح الجريمة بميدان لبنان، وجود هاتف وأموال المجني عليه بحوزته نفى احتمالية قتل المجني عليه بدافع السرقة؛ لتتجه أنظار ضباط المباحث لسيناريوهات أخرى.
وضع فريق البحث، خطة لكشف اللغز، كانت أول خيوطها هو فحص وتفريغ كاميرات المراقبة بمحيط مسرح الجريمة وفحص علاقات المجني عليه؛ لبيان وجود خلافات له مع آخرين من عدمه، إلا أن فحص كاميرات المراقبة أسفر عن رصد خروجه من محل عمله بالصيدلية وظهر في الكاميرا عجوز يسير خلفه وما أثار الشكوك به تلفته عدة مرات وتحفظه حتى لا يراه المجني عليه.
بدأ البحث عن هوية ذلك الشخص لتفجر التحريات مفاجأة مثيرة؛ حيث تبين أنه جار المجني عليه يقطن في ذات المنطقة، ما زاد من الشكوك حوله ليتحول إلى مشتبه به رئيسي في الجريمة.. وجه مدير المباحث الجنائية، بإرسال مأمورية للبحث عن المشتبه به، إلا أن تغيبه واختفاءه من منزله في وقت معاصر لوقوع الجريمة أشار إليه بأصابع الاتهام؛ فخرجت عدة مأموريات بحثًا عنه في الأماكن التي يتردد عليها حتى ألقي القبض عليه في استراحة يمتلكها في منطقة أوسيم. أرشد العجوز المتهم عن سلاح الجريمة “طبنجة” كان دفنها في قطعة أرض زراعية قريبة من استراحته التي اختبأ بها.. لكن لماذا قتل هذا الشاب؟ وماذا قال في اعترافاته؟!.. قبل أن نعرف الدوافع الغامضة والمثيرة في تلك القضية، نعود بالزمن للخلف لعدة سنوات ربما تفسر لنا جوانب من هذه الجريمة الغامضة.
في بيت صغير بشارع عبده جوهر، بميت عقبة، عاش سامر، بطل قصتنا، شاب يبلغ من العمر ٣٣ عاما، هو الابن الأكبر لأسرته الصغيرة المكونة من أم وأخ أصغر، والده توفى منذ فترة ليست ببعيدة، فأصبح هو الأب والابن والسند لتلك الأسرة وتعتمد عليه الأم المكلومة التي فقدت زوجها وتركها وحدها وها هي الآن تفقد ابنها؛ سامر هو ابن بار بوالدته، مشهود له بالطيبة والأخلاق الحميدة داخل منطقته، شاب مكافح بنى نفسه بنفسه، افتتح عدة صيدليات وكان مسئول عن إداراتها، تزوج وأنجب طفلة لم تكمل العامين بعد، ورغم أنه يسكن في شقة بعيدة عن والدته إلا أنه اعتاد أن يذهب إليها صباح كل يوم قبل ذهابه لعمله وفي المساء ايضا بعدما يُنهي عمله فدائما كان يردد على مسامع أمه عندما تشفق عليه من كثرة تردده عليها مرتين يوميا “أنا عمرى ما اتأخر عن ست الحبايب بسببك ربنا بيكرمني”، تدمع عين الأم وهي تحتضن ابنها البار تقبله تدعو له بالرزق الوفير وان يطرح الخالق البركة في أسرته الصغيرة.
يوم الحادث بدا طبيعيًا، ذهب سامر إليها في الصباح كعادته يطمئن عليها يضفي البهجة بخفة دمه عليها، لكن السيناريو تبدل تماما، سامر يخرج هذه المرة ولم يعد لها في المساء واكتشفت بعد ذلك بساعات طويلة أنه جثة هامدة ملقى في الشارع غارق في دمائه، وأجهزة الامن تحيطه من كل جانب بعدما فرضت كردونًا أمنيًا في المكان حرصا على الأدلة من ضياعها في مسرح الجريمة.
تأخر سامر عن عودته للبيت، حتى أنه لم يتواصل هاتفيا مع والدته أو زوجته، اعتقدت تلك المسكينة أنه سيذهب لبيته ويعود لها في الصباح، نامت وهي تشعر بغصة في قلبها لا تعرف سببها آه من قلب الأم؛ وفي الصباح تلقت اتصالا هاتفيا من ابنها الثاني يخبرها أن سامر قُتل، تلقت الأم الصدمة وكادت تفقد عقلها، خرجت كالمجنونة مع شقيقها يبحثان عن جثة ابنهما داخل المستشفى الذي يرقد فيها.. صراخ ودموع متواصل حتى وصلا لمكانه، وهما في الطريق يتمنيان ألا تكون جثته، وأن يكون مصابا فقط، لكن أحلامهما تحطمت على صخرة الواقع الأليم عندما وجدوه جثة داخل ثلاجة المستشفى، جن جنونهما؛ فمن قتله؟، وأي ذنب اقترفه سامر ليقتل بهذه الطريقة وهو لم يكن له أي عداوات مع أحد؟!
سيناريوهات وأقاويل كثيرة فجرها المتهم أثناء التحقيق معه؛ القاتل يدعى محمود عباس، يبلغ من العمر ٦٠ عاما، مدير عام بهيئة الثروة المعدنية، عندما سأله وكيل النيابة عن تفصيلات اعترافه ولماذا قتل المجني عليه، قال بهدوء وبرود: “اللي حصل إني ساكن في ميت عقبة من أكتر من ٤٠ سنة، وفي شهر رمضان اللي فات جه سامر اللي قتلته ده اشتغل في صيدلية قريبة من البيت بتاعي ودائما بشوفه بيتكلم مع الستات في المنطقة بشكل مش كويس وكمان بشوف الشباب متجمعة عنده وعرفت أن أخلاقه مش كويسة، وبعدها في مرة مراتي كانت طالبة أدوية من الصيدلية عنده وبعد ما الأدوية وصلت لقيته بيتكلم معاها في التليفون وعشان عارف أن أخلاقه مش كويسة روحت اتكلمت معاه وقولتله متتكلمش مع مراتي تاني والموضوع عدى، لحد ما لقيت ستات كتيرة بتدخل عنده الصيدلية روحت اتكلمت معاه تاني وقولتله عيب اللي بتعمله ده، قالي انت كبرت وخرفت، فضلت أفكر ازاي أقطع رجله من المنطقة لحد يوم الواقعة لمحته خارج من الصيدلية وكان معايا الطبنجة فضلت ماشي وراه لحد ما وقفنا واتكلمت معاه وهددته لكن سابني وهو بيركب العربية ضربته بالنار والطلقة استقرت برأسه ووقع على الأرض وهربت، أنا قتلته عشان على علاقة بمراتي”.
هذه كانت اعترافات المتهم، ولكن عندما استدعت النيابة زوجة القاتل، قالت:”إنه ليست هناك أي علاقة بينها الضحية، ولم يعترض طريقها أو ينظر إليها بنظرات مريبة أو خادشة للحياء، ولا تعرف لماذا ارتكب زوجها تلك الجريمة”.
أمرت النيابة بحبس المتهم، وأثناء أولى جلسات محاكمته قال؛”أنه لا يعرف المجني عليه من الأساس”!، لذلك جاء قرار المحكمة بعرضه على الطب النفسي لمدة ٤٥ يوما لبيان مدى سلامة قواه العقلية.
Facebook Comments